لا أدري، لماذا تتصامم آذاننا، عن سماع الحق المر، في هذه القضية، وكأن في أذاننا وقر من شر البلية؟
ولماذا، تتعامى أبصارنا عن رؤية، بؤرة الشر، وكأن في أعيننا، قصر نظر، من هول خطورة القضية؟
وما سر تبلّد ضمائرنا، عن أدراك كنه بواطن الضر، التي تنسجها خلايا الشر لضرب الوحدة الوطنية، والتعددية المذهبية والطائفية؟
وإلا، فما معنى، تمادي عرض فصول المأساة الدموية، الدائرة على مشرح قطعة غالية من وطننا الجزائري، هي الجنوب العالي والغالي، انطلاقا من عين صالح، وانتهاء بغرداية؟
إن عارنا، في غرداية، بتسليط الأخ على أخيه، بالقتل والحرق، والتكفير والتسفيه، لهو لعنة تاريخية، ستظل تلاحقنا، ولن يمحوها غاز عين صالح، أو مجرد الترميز والتنبيه.
لطالما أعلنا وأذعنا، بأن ما يحدث في الجنوب عموما، وفي غرداية على الخصوص، ليس نزاعا ذا طابع مذهبي، وإنما هو كيد من تنظيم أشعبي غبي، تشابكت فيه أيدي العميل الحزبي بالعدو الحاقد الأجنبي.
إن في الجنوب بطالة، كما في الشمال بطالة، ولكن لماذا تبرز هنا وهناك الحثالة من أهل الضلالة، للتشويش على الوطنيين، من ذوي العدالة والأصالة؟ ولماذا يجند في الشمال، مذبذبو العقيدة، لضرب الوحدة الوطنية، بافتعال الردة الدينية، وانتهاك الحرمة الرمضانية، تحت زعم صيانة الحرية الشخصية؟ ولماذا، يلجأ في الجنوب، وفي غرداية المستقرة بالذات، إلى إبراز النعرة الطائفية، والنزعة المذهبية، لخرم وحدة العقيدة الإسلامية، والهوية الوطنية؟
فعندما، يهدم البيت على ساكنيه في القرارة، أو في بريان، أو غرداية، وعندما يحرق النقل براكبيه، على الطريق العام جهارا، في وضح النهار، وعندما يهجم الملثمون، على جنازة إمام في المقبرة ببريان، دون مراعاة لحرمة الميت أو المشيعين، عندما يصل الشر إلى هذا المستوى من الاستفزاز والأذى، فأيقن بأنه قد بلغ السيل الزُّبَى.
وحينما، يصطاد “وكالو رمضان” في الشمال من المذبذبين في عقيدتهم، قدسية رمضان، وطهارة، وعبادة، وصوم السكان، ليفطروا جهارا نهارا، على شرب الخمر، وأكل الخنزير والديدان، فذلك هو الهوان للأوطان، والعدوانية على حقوق الإنسان.
لقد رسبنا –إذن- في امتحان الحفاظ على قدسية الوحدة الوطنية، وصيانة ثوابتها من لحمة لغوية، وحرمة عقدية. وعلى من تقع المسؤولية في كل هذا؟
نحن جميعا، حكاما، ومحكومين، مسؤولون عن مأساة غرداية الدامية، وعن الروافد المؤدية إليها. لقد فشلنا كمنظومة أمنية، بالدرجة الأولى، عن تشخيص الداء، واستئصال جذوره، وكشف الممثلين والمخرجين، والملقنين، للدراما الجنوبية الغرداوية.
ولقد فشلنا أيضا، كمنظومة علمية، ثقافية، تربوية، دينية، في عزل، دعاة الفتنة، من الصائدين في الماء العكر، الذين يخوضون –بوعي أو بغير وعي- مع الخائضين في الثلب، والسلب، والضرب، من رافعي الشعارات الدينية المضللة.. فكل فئة من العلماء، والمثقفين، والمربين، والأئمة، تتحمل مسؤولية في ما آل إليه الأمر الذي طال.
إننا في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، نبعث بنداء ملح، إلى القائمين على الشأن الوطني في بلادنا، بأن يمكنونا من المساهمة في حل المأساة الجنوبية، التي تقضّ مضاجع الجميع، بإطالة أمدها.
ونعتقد أنه لو تظافرت الجهود الأمنية، والفكرية، والدينية، في تشخيص الداء وجمع الفرقاء، والتعاون جميعا على إيجاد البلسم الناجع من الدواء، سوف نتمكن من تفويت الفرصة على الدخلاء، والعملاء، والأدعياء..
نحن ندعو إلى عقد مؤتمر حوار شامل في مدينة محايدة، بعيداً عن أماكن الضغط المحلي أو الخارجي، لوضع وثيقة عقد أخلاقية دينية وطنية، يلتزم الجميع بتطبيقها. كما ندعو إلى أن يشمل الحوار الشيوخ والشباب معاً، للإلمام بكل مكونات الأزمة، ومطالب الأمة، للقضاء على كل الرواسب والمخلفات، لدى كل الفآت، ومن كل الجهات.
إن لكل أزمة حل، بشرط تظافر الجهود وخلوص النوايا، ومحنة غرداية، سهلة الحل، إذا تم عزل تجار النعرات، والمخدرات، والعصبيات، وإسناد الأمر إلى المرجعيات الدينية، والطائفية، والقبلية، لاتخاذ التدابير الردعية، ضد كل من تسول له نفسه المساس بالوحدة الوطنية، أو التمرد على المرجعية الدينية، أو التواطئ مع طوابير الفتنة الخارجية.
نعتقد أن محنة غرداية، قد طالت، بما لا مبرر له، وأن امتدادها، وتركها بدون حل جذري، سيلقي بضلاله وعواقبه على كل من مكونات الوطن، وعندها سيتسع الخرق على الراقع، ويومها يعضّ كل منا على يديه، فيقلّب كفيه على ما أنفق فيها، ولاة حين مناص.
فيا بني وطني.. لقد بات حراماً عليكم السكوت أمام ما يحدث لوطنكم، من دماء غزيرة تسفك، وأرواح بريئة تزهق، وكرامة شريفة تنتهك.
فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب أولها كلام
نعتقد انه قد آن الأوان، لوضع حد لهذه المحنة التي طالت، في غفلة، أو تواطئ، أو تبلد، أو لامبالاة من بعضنا.
فعندما يحترق وطني، فلن يصيب جزء واحداً، أو فئة معينة من الناس، بل إن النار ستحرق الجميع، ولاة حين مناص. إننا نبعث بنداء استغاثة: حذار فإن السفينة تغرق! تغرق .. تغرق!