هناك تعريف جديد للشيطان، وهو أنه من يشغلك بالمهم عن الأهم، وإذا نحن أخضعنا هذا التعريف الجديد للشيطان، للتأمل الدقيق، وقلبنا معانيه في ضوء الواقع العربي المعيش سنجد أن الشياطين المستبدة بوطننا العربي قد تكاثرت أنواعها، وتضاعفت أنواؤها، وانعكست سلبا، أخطارها وأضرارها.
فالقدس الشريف الذي كان قبلتنا الدينية الأولى، وينبغي أن يكون –اليوم- قبلتنا السياسية الأولى، إليه نتجه جميعاً باهتمامنا، ونحوه نوجه كل أسلحتنا، وانشغالنا. هذا القدس اليوم يداس من شر الأنجاس، ويسام عِباده وعُبّاده الخسف من أراذل الناس. وبدل أن نهبّ لنجدته، وننفر خفافاً وثقالاً لنصرته، شغلتنا شياطين الوطن العربي عن الهدّة والنجدة، فداحس والنصرة، وداعش والبصرة، قد عمقت فينا معاني الهوان و“الحقرة” وسلبت منا كل قيم الرجولة والنفرة، وويل للعرب من شياطين المحن والفتن، التي عمقت الجراح والإحن، ومكنت في فلسطين والقدس، لشياطين الإنس والجن. فهذا النفير الذي سببته داعش والنصرة، والسلاح الخطير الذي جنده التحالف لكسر سلاح “التحلّف” على حد تعبير فقيدنا عميرات، لو وجه هذا السلاح لقدسنا السليبة، لأنقذنا من القوة الشيطانية المعتدية المريبة.
وهذا السلاح الذي يقتل الجنود الأبرياء في سيناء، ويعتقل المتظاهرين الطاهرين من الطلبة الجامعيين الأصفياء، ماذا لو توحدت مقاصده، وتوجهت إلى الأعداء الحقيقيين مدافعه وبنادقه… لجنبنا وطننا في مصر شر الفتنة والقمع، ولمسحنا من عيون الثكالا والأرامل الغزير من الدمع، ولحمينا شعبها من هول الخوف والفزع. غير أن الشيطان الأكبر، وباقي الشياطين الذين يأتمرون بأوامره، قد شغلنا بغير المهم عما هو الأهم.
وهذا اليمن السعيد بتاريخه، الشقي بحوثيته وقواعده، ماذا دهاه، حتى انقلب أسفله وأعلاه، وها هو يجرب في أبنائه سلاحه، وكل ما ادخرته خزينته لمبتغاه، ويلمهم مما فعلوه باليمن الذي أضحى شقيا بهم، وما صنعوه بالتنكر للقدس، وغزة، من تمكين للعدو الصهيوني، من إطلاق يده وسلاحه ليقتل ويدمر، في غفلة من العرب الذين شغلتهم أهواؤهم وأشلاؤهم عن أعدائهم وأشقائهم.
وتعالوا بنا إلى ليبيا اليتيمة، فستجدون اللطيمة، اللطيمة، والفتنة الخطيرة اللئيمة. إنها الحرب المدمرة بالدبابات الذاتية الثقيلة، وبالطائرات المغيرة الدخيلة، وكل ذلك لدحر عدو وهمي، يحمل ظلما اسم العزة والكرامة، أو يرفع زوراً شعار الفجر والصرامة. وأين الكرامة في من يجهز على أبناء شعبه بسلاحه، وبسلاح غيره ليحقق في النهاية ماذا؟ الخراب، والدمار، والعار، والشنار. أية كرامة بقيت للعربى الليبي، بعد أن عبث بليبيا العابثون، وأعانها على ذلك قوم آخرون. تالله إنها الكرامة المداسة، وإنه الفجر الكاذب الذي لا يمطر إلا بروقاً، ورعوداً، وقنابل وجنوداً.
أين ليبيا اليوم، من ربيعها الذي أرادته مزهراً، فأصبح مفقراً، ومن فجرها الذي حسبته صادقاً، فأضحى فجراً كاذباً، وما ذلك إلا لأن المقدمات؛ مقدمات التحرير والبناء كانت مقدمات فاسدة، وها هي النتائج تأتي اليوم كاسدة، وحاصدة.
فإلى متى يظل هذا الطلسم الليبي ينشر ألغازه، ويبعد إنجازه، ويؤكد إعجازه، فليت أشقاءنا في ليبيا يفيقون من الغفوة، وينهضون من الكبوة، فيدركون هول الفخاخ التي نصبت لهم من الأعداء والأشقاء، وليس من هؤلاء من يريد الخير لليبيا، إنما هي أطماع يريدون تحقيقها، بواسطة العربي الغبي الليبي. ويؤسفنا أن نقر، بتحقيق أهداف الكائدين والمتربصين بليبيا، فقد دمروا كل تعمير، وأفسدوا كل تدبير، وشوهوا معنى التحرير، ولم يبق في ليبيا اليوم إلا العويل، والشؤم والنذير.
وبينما العربي الغبي في كل أجزاء وطنه العربي الكبير، يدمر ذاته، ويعمق شتاته، ويمحو تراثه، يزداد العدو الصهيوني عتوا وفجور، فيدنس المقدس، ويفكك المؤسس، ويثبت للعالم أجمع –ظلماً- إنسية الصهيوني وإجرامية المسلم. إن فاقد الشيء لا يعطيه كما يقول المثل العربي، وإذا كان العربي الغبي لا يؤتمن على داره، فهو يهدمها، ويخربها بيده ويد غيره، فكيف نطمع في أن يحرر العربي القدس، أو غزة، أو فلسطين؟
إن الدرس الصحيح الذي يجب أن يدركه الفلسطينيون عموماً، والمقدسيون على الخصوص، أن القدس الشريف لا تحميه الجيوش العربية المتخاذلة، ولا المقاومات العربية المتناحرة، وإنما الضامن الحقيقي للقدس هو المقاوم الفلسطيني الحقيقي الذي يذود عن أرضه، ويدافع عن عرضه، ويقوم بأداء فرضه، بدء من طفل الحجارة إلى الفدائي بالصاروخ والإغارة. إن قوة المستوطن اليهودي في القدس، إنما جاءت نتيجة ضعف العربي في العراق، وسوريا، واليمن، ومصر ،وليبيا، فهم جميعاً مشغولون بإضعاف ذاتهم عن نصرة وتقوية إخوانهم، وبذلك خلا الجو للصهيوني، وهاهو يزبد ويرعد، ويعبث ويعربد، ولا من يردعه بقوة السلاح، ولا من يوقفه بقدرة القانون. لقد تحالف ضد القدس العربي بجهله وغبائه، والغربي بخبثه ودهائه، وضاعت القدس بين العربي والغربي، أي بين النقطة التي تميزهما، وفيها كل السر وكل الشر، كما يقول إمامنا محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله.