مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
غير مصنف

الثورة الجزائرية في أسبوعها الأول من خلال جريدة عربية أ.د مولود عويمر

AOUIMER-2صدر العدد 195 من جريدة “الدعوة” المصرية يوم 9 نوفمبر 1954. فتزامن صدوره مع مرور أسبوع على انطلاق الثورة التحريرية في الجزائر. كيف تفاعلت هذه الجريدة الصادرة في القاهرة مع هذا الحدث العظيم؟ كيف كانت قراءاتها للأحداث المتسلسلة عبر التراب الوطني؟

جريدة الدعوة في سطور
تصدر جريدة الدعوة أسبوعيا بالقاهرة، ويشرف عليها الأستاذ صالح عشماوي (1910-1983). وهي صحيفة قريبة من حركة الإخوان المسلمين. صدر العدد الأول منها في 30 يناير 1951، وشكلت هذه الجريدة مدرسة في الإعلام الديني المتفتح على القضايا السياسية الوطنية والدولية.
وكانت تفتح باستمرار صفحاتها للكتاب من مختلف الدول العربية، وتشجع الكتاب الشبان على الكتابة فيها، فعلى صفحاتها نشر محمد قطب مقالاته المبكرة في النقد والأدب إلى جانب أقلام معروفة في عالم الفكر والدعوة مثل الشيخ محمد الغزالي والشيخ السيد سابق.
توقفت جريدة الدعوة عن الصدور في 1 ديسمبر 1954. ولا شك أن استمرارها كان سيشكل دعما للثورة الجزائرية، بما تنشره من مقالات مدعمة لها بأقلام المثقفين المصريين والجزائريين وغيرهم، وبما تذيعه من أخبار تطور وقائعها في الجزائر، وبما تغطيه من نشاطات التضامن والنصرة للقضية الجزائرية التي تزخر بها العاصمة المصرية في الخمسينات من القرن العشرين.

الأخبار الأولى عن الثورة التحريرية
حرصت جريدة الدعوة على نقل أهم الأخبار التي تناقلتها وكالات الأنباء الدولية عن الثورة الجزائرية في أسبوعها الأول، ونشرتها في الجزء الأعلى من الصفحة الأولى تحت عنوان كبير: ” معارك دامية في جبال الجزائر”. وأفاد مراسلها من الدار البيضاء بالمغرب عن تعدد الاشتباكات بين المجاهدين والقوات الفرنسية المدرعة في عدة مناطق جبلية.
وكذّبت الجريدة ما نشرته وزارة الداخلية الفرنسية من بيانات رسمية تعلن فيها عن سيطرة قواتها على الموقف في الجزائر. بل يشير مراسلها إلى اشتداد وطيس المعركة، ونجاح الثوار في قتل بعض الفرنسيين، ومنهم سائق سيارة ضابط فرنسي كبير.
وعن أخبار القادة السياسيين الجزائريين، أكدت الجريدة أن مصالي الحاج طوقت داره في المنفى بحراسة شديدة. أما عدد المعتقلين الجزائريين، فقد نقلت هذه الجريدة عن مراسل الإذاعة البريطانية ما يزيد عن 3 ألاف شخص فيهم نساء، وهذا الرقم يكذب بلاغ وزارة الداخلية الفرنسية الذي أعلن فقط عن 163 شخصا.
كما نقلت الجريدة عن مراسل إذاعة ناسينومال كوربوريشن الأمريكية توسع رقعة المعارك عبر التراب الجزائري باستمرار، وتزايد عدد المجاهدين الذين ينضمون إلى الثورة، وتضاعف تعداد القوات الفرنسية المدعمة بالطائرات المقاتلة.

مقال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
نشرت هذه الجريدة في الصفحة الثانية عشر مقالا للشيخ محمد البشير الإبراهيمي عنوانه: “شعور الجزائريين نحو مصر”. وهو مقال مقتبس من جريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. وتناول المقال الصلات الوثيقة بين الشعبين عبر التاريخ متجلية في صور متعددة، ويكشف منزلة مصر في قلوب الجزائريين ونظرتهم إليها التي تتسم بالاحترام العميق والمحبة الصادقة، حتى أصبحت عقيدة كما وصفها الشيخ الإبراهيمي، ذلك أن ” كل ما يصيب مصر من خير فهو عائد على الجزائر… واستقلال مصر مؤذن باستقلال الجزائر، ولا يشك الجزائري في هذا إلا إذا أجاز أن يشك في وجوده الشخصي.”
ولا شك أن هذه الجريدة المصرية التي تبنت خيار المجاهدين، ودعمت حركتهم من أجل الانتصار على العدو الاستعماري، هي في حاجة إلى مثل هذا المقال لتحفيز المصريين على التضامن مع الثورة الجزائرية ودعم الشعب الجزائري في كفاحه العادل في سبيل استعادة سيادته وحقه في العيش حرا ككل الشعوب الحرة في العالم.

صرخات الفضيل الورتلاني
نشرت جريدة الدعوة في العدد 195 ثلاثة نداءات وجهها الشيخ الفضيل الورتلاني الذي كان حينئذ مدير مكتب جمعية العلماء المسلمين بالقاهرة. كان النداء الأول موجه إلى الحكومة الفرنسية والرأي العام الفرنسي يتوعدهم بإخراجهم بالقوة من الأقطار المغاربية كما دخلوها أول مرة بالقوة.
ووجه النداء الثاني إلى أبناء المغرب العربي ليحثهم على الثبات في جهادهم من أجل تحرير أوطانهم من الاستعمار، قائلا لهم بلهجة واضحة: “إن وطنكم عزيز فادفعوا في تحريره الثمن الباهظ”.
أما الصرخة الثالثة فقد وجهها الشيخ الورتلاني إلى الشعوب والحكومات العربية لتهب إلى التضامن مع المجاهدين في المغرب العربي وتساعدهم بمختلف الوسائل لأن جهادهم لا يقتصر على أوطانهم، وإنما نتائج انتصاراته ستعمم على العالم العربي كله، ذلك أنهم يجاهدون الاستعمار الفرنسي من أجل شرف العروبة وكرامة العرب.

المقال الافتتاحي يناصر الثورة
خصص مدير الجريدة الأستاذ صالح عشماوي جزء كبيرا من المقال الافتتاحي للحدث الكبير الذي كان يشغل الرأي العام العالمي والذي يتمثل في اندلاع الثورة التحريرة في القطر الجزائري. ويؤكد هذا المقال حجم يأس النخبة العربية من استعادة الجزائر إلى الحضن العربي والإسلامي بعد أن سكت صوت السلاح في كل أرجاء الجزائر، بينما ارتفع في تونس والمغرب.
ولقد استطاعت فرنسا أن تروّج بوسائلها الدعائية المتعددة صورة هدوء الجزائر وقبول نخبتها وشعبها لأمر الواقع، غير أن الثورة جاءت لتكسر هذا السكون، وتسترجع إلى الأذهان الصورة الناصعة للنضال والجهاد التي رسمها المجاهدون في كل شبر من أرض الجزائر خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بدمائهم الغالية، وتضحياتهم الجسيمة.

وإليك الآن أيها القارئ نص المقال الافتتاحي الذي كتبه مدير الجريدة:
“منذ وقت غير بعيد، حضرت حفلا لتكريم زعيم وطني من الجزائر قدم إلى القاهرة. وبعد تناول الشاي والحلوى قام الخطباء يحيون الزعيم الجزائري ويمجدون أعماله. ثم جاء دور هذا الزعيم في الرد على كلمات الخطباء فوقف ليتكلم.. وإذا به يستهل خطابه قائلا: “أرجو أن تسمحوا لي بإلقاء كلمتي باللغة الفرنسية لأني لا أستطيع أن أعبّر عن شعوري باللغة العربية، وها أنتم ترون أني ضحية من ضحايا الاستعمار الفرنسي.”. ثم اخذ يسترسل في خطابه باللغة الفرنسية.
ولقد خرجت من هذا الحفل وقد أدركت بصورة ملموسة مبلغ تغلغل الاستعمار الفرنسي في قطعة عزيزة من الوطن العربي الإسلامي. كما فهمت بوضوح معنى العبارات التي كان يتفوه بها رجال السياسة والحكم في فرنسا من ان الجزائر قطعة من الوطن الفرنسي!
وكانت الثورات تقوم من وقت إلى آخر في تونس ومراكش، وتحمل الصحف أنباء كفاح إخواننا العرب واستبسالهم في مقاومة المستعمرين وتضحياتهم في سبيل إجلاء الغاصبين المعتدين. أما الجزائر، فهي في هدوء شامل كانها سعدت بالحكم الفرنسي الظالم أو رضيت بالانسلاخ من قوميتها وعروبتها لتكون مقاطعة في الجمهورية الفرنسية!
وفي الأسبوع الماضي اندلعت نار الثورة في الجزائر العربية، وفوجئ الفرنسيون بهذه اليقظة الباهرة وتلك الوثبة الجبارة، وواجهوا مجاهدين أبطالا، فدائيين أحرارا، يلقون عليهم القنابل، ويشتبكون معهم في معارك تستعمل فيها الأسلحة المختلفة.
إذن لم يكن سكوت الجزائريين إلا السكون الذي يسبق العاصفة، ولم يكن هدوء الجزائر تسليما لفرنسا او استسلاما لاستعمارها، وإنما كان استجماما واستعدادا بعد ثورات عنيفة وحركات شديدة للتخلص من استعمار بغيض جثم على صدرها مائة وعشرين عاما.
ولقد قابل الفرنسيون هذه الحركة التحريرية بحماقتهم المعهودة، فأرسلوا الإمدادات العسكرية،وحلوا الأحزاب الوطنية، وملؤوا السجون والمعتقلات، وقتلوا المجاهدين والزعماء، وقاموا بكل أعمال البطش والإرهاب، ولكن هذه الفظائع التي ارتكبا، وهذه الدماء الزكية التي أرهقت لن تزيد نار الوطنية في صدور الجزائريين إلا اشتعالا، ولن تزيد عزم العرب على الخلاص من الاستعمار إلا قوة وتصميما.
فلترتكب فرنسا كل ما لديها من حماقات وفظائع فلن تزيد الثورة في الجزائر وتونس ومراكش إلا لهيبا، وأن الاستعمار الذي يحتضر في كل مكان لن يبقى في شمال إفريقيا. وستخرج فرنسا من المغرب العربي كله كما خرجت من سوريا ولبنان. وعل الباغي تدور الدوائر، والنصر دائما للمجاهدين الصابرين، والعاقبة للمؤمنين المتقين.” انتهى.
لقد استطاعت الثورة الجزائرية منذ أيامها الأولى أن تحقق أصداء خارج الجزائر، وتقنع بخطابها السياسي الواضح وكفاحها المستميت العديد من الشخصيات العربية والغربية الفاعلة في الساحة الفكرية والسياسية لتضم صوتها إلى جبهة التحرير الوطني مدافعة معها على حق الجزائريين في الحرية والاستقلال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى