تعامل المفتي مع المستفتي تشبه إلى حد ما تعامل الطبيب مع المريض، فكل طبيب حاذق يقدم لمريضه العلاج النافع الخاص به، إذ لا يصلح له إلا دواؤه، فإذا قدم له وصفة خاطئة نتج عنها فساد كبير وضرر يصيب الجسد.!
ولهذا فإن المفتي الحكيم هو الذي يملك مع العلم وسعة الإطلاع والبحث، الملكة والفراسة، فكم جنت فتاوى بعض المفتين على أفراد وأمم وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا..!
إنني لأعجب من بعض المنتسبين إلى العلم الشرعي كيف يسارعون إلى الفتوى في بعض المسائل العويصة كما يسارع الجائع إلى الطعام، ولو قُدمت مثل هذه المسائل إلى عمر-رضي الله عنه- لتوقف فيها حتى يجمع لها أهل بدر، كما قال أبو حصين عثمان بن عاصم التابعي الجليل: (إنَّ أحدهم ليفتي في المسألة، ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر)…
وليس يعيب المفتي إذا استفتي في مسألة أن يعطي للمستفتي ولنفسه مهلة من الوقت حتى يبحث في الأمر ويقلب المسألة في عقله ويبحث في بطون الكتب المعتبرة ويتباحث مع غيره من أهل العلم ثم إذا اطمأن بعد ذلك إلى جوابه أجاب المستفتي، والحق أن مثل هذا المفتي هو المؤتمن على دين الناس..!
يظن بعض الناس أن الذي يجيب فورا على كل مسألة هو “العالم” الذي ملك ناصية العلم، والبحر الذي لا ساحل له، وينسى هؤلاء أن كثيرا من كبار أئمة المسلمين كان يُسأل في مسائل عدة فيسكت عن بعضها فلا يُجيب ورعا حتى يرى فيها رأيا يطمئن إليه أو يحيل السائل إلى غيره هروبا من المسؤولية الثقيلة لأن المفتي موقع عن الله تعالى.
فعن البراء -رضي الله عنه- قال: (لقد رأيت ثلاثمائة من أهل بدر، ما منهم من أحد، إلا وهو يحبُّ أن يكفيه صاحبُه الفتوى).
وقال ابن أبي ليلى-رحمه الله-: (أدركت مئةً وعشرين من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يُسأل أحدهم المسألة، فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول وما منهم من أحد يحدث بحديث أو يُسأل عن شيء، إلا ودَّ أنَّ أخاه كفاه).
بل ومن أدب سلفنا من العلماء أنهم كانوا في المسائل التي لم تثبت قطعا تحليلا أو تحريما من الكتاب أو السنة لا يقولون هذا “حلال وهذا حرام” وإنما تسعهم كلمات مثل: “هذا جائز أو غير جائز” تدل على أنهم اجتهدوا في الأمر لإدراكهم أن الإنسان غير معصوم، ورأي الواحد منهم قد يكون صوابا ورأي غيره خاطئا، وقد يكون رأيه خاطئا ورأي غيره صوابا… قال أبو داود: قلت لأحمد: الرجل يسأل عن مسألة فأدله على إنسان؟ قال: إذا كان متّبعاً ويفتي بالسنّة، قلت: إنّه يريد الاتّباع وليس كلّ قوله يصيب، قال: ومن يصيب في كلّ شيء ؟.
إن مساحات واسعة من الاجتهاد تحتاج مع الفقه إلى الورع والخلق الحسن وسعة الصدر وسلامته حتى لا تُشعل حروب بسبب آراء الرجال، وحتى تكون الفتوى رسالة بناء لا معول هدم في أمتنا..!