حلّت منذ أيام قليلة الذكرى الثالثة لمقتل الزعيم الليبي الشهير معمّر القذافي في 20 أكتوبر 2011، ومع عودة الذكرى، أبدى ليبيون كثيرون حسرتهم على ما آلت إليه الأوضاع في بلادهم بعد ثلاث سنوات من الثورة. لقد ثاروا على القذافي لانهاء حكمه الاستبدادي وتذوّق نسائم الحرية والديمقراطية التي حُرموا منها عقوداً طويلة، ولكن لا شيىء من ذلك تحقق، بل الأخطر منه، هو انزلاق البلاد إلى حرب أهلية دموية تهدد كيانها بالتفسخ في ظل غياب سلطة الدولة وسيطرة الميليشيات كلية على مقاليد البلد.
لا يبدي الليبيون علناً حسرتهم على الزعيم السابق معمّر القذافي حتى لا يظهروا بمظهر من أخطأ في الثورة عليه، وهو الذي كبت أنفاسهم وحرمهم من أبسط حقوقهم في الحرية والديمقراطية وفرض عليهم نظاماً أحادياً شمولياً لا نظير له في العالم، ولكن بعضهم لا يتوانى عن القول إن مرحلته، على كثرة ما يُؤخذ عليها، شهدت استقراراً وأمناً ورخاءً ووجوداً لمظاهر الدولة ونموا اقتصادياً ومكانة بين الدول…اليوم اضمحلّ كل ذلك وغابت الدولة وحلّت محلها عشراتُ الميليشيات المتناحرة المتنافرة، وغاب الأمن وسادت الفوضى والنهب والسلب ولم يعد أيّ ليبي يأمن على حياته وبيته وأطفاله، وتوقفت تقريباً عجلة التنمية وتراجع تصدير النفط، المورد الأساسي لمداخيل البلد، إلى مستويات غير مسبوقة، وانتفت مظاهرُ الاستقرار السياسي وغرقت البلاد في الصراعات على السلطة واحتكمت الأطراف المتخاصمة إلى السلاح وغرقت ليبيا في حرب أهلية طاحنة في ظل انتشار أزيد من 60 مليون قطعة سلاح من مختلف الأصناف في شتى أنحاء ليبيا دون حسيب أو رقيب، ما يشكّل مصدر خطر كبير لعدد من دول الجوار، وفي مقدمتها تونس ومصر والجزائر والنيجر ومالي والسودان، وحتى الدول الأوربية… حيث وجدت الجماعات الإسلامية المسلحة، التابعة لـ”القاعدة” و“داعش” وغيرهما، “كنزا” هاما من السلاح تغترف منه كما تشاء.
الوضع في ليبيا اليوم، لا يسرّ صديقاً ولا عدوا؛ إذ تستمر المعارك يومياً بين الميليشيات المقرّبة من الإسلاميين، من إخوان وسلفيين مدعمين من قطر وتركيا، وقوات حفتر المدعمة من مصر والإمارات العربية المتحدة وربما فرنسا، ما يُفضي إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى يومياً.
وبين الطرفين، تواصل الجزائر جهودها الحثيثة لاقناعهما بالجلوس إلى مائدة الحوار لحلّ نزاعاتهما بتسويةٍ سياسية إذا كانت ممكنة اليوم، فلن تكون كذلك غداً. ويبدو أن الجزائر تواجه عراقيل كبيرة تحول -إلى حد الساعة على الأقل- دون تحقيق هذه الغاية، ولاسيما بعد أن اشتدت حدة المعارك في بنغازي، وتصاعدت لغة العداء والتشنّج والتصريحات النارية بين الفريقين المتناحرين في الآونة الأخيرة، وأصبح خطرُ التدخل العسكري الأجنبي يقترب يوماً بعد يوم من ليبيا.
وتبذل الجزائر جهوداً حثيثة ومتواصلة لإبعاد خطر التدخل العسكري الأجنبي عن ليبيا، ويبدو أنها أقنعت فرنسا بـ“تأخير” هذا التدخل الذي كان قاب قوسين أو أدنى في الأسابيع الأخيرة، ومنْح المزيد من الوقت لمساعي جمع فرقاء الأزمة على طاولة الحوار لايجاد تسوية سياسية للأزمة.
وتدرك الجزائر أن أي تدخل عسكري أجنبي سيزيد الأوضاع تعقيداً في البلد، ويُقصي تماماً الحلول السلمية، ويزيد من مخاطر انتقال الأزمة إلى دول الجوار، ما يضاعف التحديات الأمنية للجزائر. لكن يبدو أن نظام السيسي لا يشاطر الجزائرَ مقاربتها لحل الأزمة سياسياً ويفضل انهاءَها عسكرياً عن طريق تقديم المزيد من الدعم العسكري لقوات الجنوال حفتر لحسم المعركة ضد الإخوان والسلفيين لصالحه، ودحرهم بالقوة، حتى لا يهيمنوا كلية على مقاليد الحكم في ليبيا، مع ما يعنيه ذلك من تقديم دعم فعال للإخوان في مصر وربما مساعدة أي تيار إسلامي مسلح يسعى إلى الاطاحة بحكم السيسي.
وفي ظل الحسابات والتجاذبات الإقليمية والدولية، يعيش الليبيون أسوأ أيّام حياتهم وهم يرون أن ثورة 17 فبراير 2011 التي حملت شعار التخلص من الاستبداد وإقامة نظام ديمقراطي تعدّدي تسود فيه الحريات الفردية والجماعية والعدالة الاجتماعية وتعود فيه الكلمة الفاصلة إلى الشعب في اختيار حكامه، قد آلت إلى هذه النهاية المُفجعة القاتمة؛ فعوض كل ذلك، تفسّخت الدولة، وأصبح لليبيين حكومتان وبرلمانان ومئاتُ الميليشيات المتناحرة عوض جيش واحد يحمي البلد ووحدته وسيادته، وتفشت الجريمة والسلاح، وأضحت ليبيا مكاناً خطيراً للعيش وينفر منها أبناؤها ويسعون إلى الهروب منها إلى دول الجوار أو أوربا وهي التي كانت تجذب ملايين العمال الأجانب، وأصبحت النزعات الانفصالية لبعض الأقاليم تبرز من وقت إلى آخر بشكل يجعل تقسيم ليبيا أمراً وارداً، كما أضحت بؤرة لمختلف الجماعات المتشدّدة، حتى أن “درنة” أُعلنت “إمارة” إسلامية تابعة لتنظيم “داعش”، ويقال إن هناك مدينتين أخريين في طريقهما إلى الانضمام إلى هذا التنظيم.
الوضع قاتمٌ ولا يبشِّر بالخير؛ فليبيا التي كانت مستقرّة آمنة قوية في عهد الحكم الشمولي الاستبدادي المطلق، أصبحت الآن دولة فاشلة بعد ثلاث سنوات من الثورة، يعشش فيها العنفُ والفوضى والتناحر، وتهدّد أمنَ الجيران وعدداً من الدول أيضاً. إنها مفارقة يصعب استيعابُها، أما الأنظمة الاستبدادية في كل مكان فتسارع دائماً إلى الاستدلال بها لتخويف شعوبها من الثورة عليها والمطالبة بحقها في الديمقراطية والحريات ككل شعوب العالم، فقد أصبح ذلك مرادفاً فقط لما يحدث في ليبيا للأسف الشديد.