كلمة الرئيس
في ذكرى محرم ونوفمبر أ.د عبدالرزاق قسوم
هما حدثان تاريخيان مصيريان في حياتنا الجزائرية والإسلامية، ينبضان بالقيم، ويفيضان بالمعاني، ويتسمان بالطهر والقداسة، إنهما محرم ونوفمبر، فالأول رمز لميلاد أمة، والثاني رمز لإحياء وطن.
فعندما يخضع شعبنا المسلم، معاني وقيم محرم ونوفمبر، للتفكير الدقيق والاستلهام العميق، سيدرك أن الـمَعلمين التاريخيين يمثلان عمق المرجعية الدينية والفكرية في صياغة منهجية النهوض والبناء، وفي طريقة التنمية والإعلاء.
إن محرم يمثل التحول المصيري لبناء الأمة الإسلامية، ففيه تم ميلاد الزمن الحقيقي للإنسان المسلم، وفيه تم التحول الهجري من بيئة قريش الشرك والظلم، والقمع، والتضييق على الإيمان، إلى مجتمع يثرب وأهله أولئك الذين آووا ونصروا، فمكنوا لرسول السلم من إقامة الدولة الإسلامية الحقة، ومجتمعها الفاضل.
ففي تجسيد هذا الحدث التاريخي العظيم الذي هو الهجرة، تبرز مجموعة من المعطيات تستوقف كل باحث منصف، وأهمها:
-
أن الهجرة المادية من مكة إلى المدينة، سبقتها الهجرة النفسية، الثقافية الصنمية، والوثنية، والجاهلية، كإعداد نفسي لحامل الرسالة، كي يتلقى نقاوة الوحي، بوعاء طاهر نقي.
-
أن الهجرة المادية التي أفضت إلى انفتاح إنساني على مجتمع متعدد الأعراق، ما كانت لتتم لولا تضحيات قدمت، وجهود بذلت، ومؤامرات أجهضت، وأسس وضعت.
-
أن الهجرة لا تمثل فراراً أو هروباً من الوطن، كما يزعم بعض المؤرخين المغرضين، بل إنها تثبيت لمعنى الوطنية ممزوجة بالقيم الروحية السامية. فكانت مكة في قلب المهاجرين هي أحب بلاد الله إلى قلوبهم، لولا أن قومهم أخرجوهم، وكانت المدينة في مستوى حب مكة، لأنها آوت ونصرت.
من هنا يتجلى لنا، كيف أن الدرس الملهم في حادثة الهجرة، هو التحول الكبير في حياة المسلمين، والذي لا تزال آثاره الإيجابية تتجدد كل سنة مع الحدث.
فإذا أضفنا إلى هذا ما يفيض به الحدث من طهر وقداسة، في بناء الإنسان المسلم على الثبات، وعلى الإيمان، وعلى البذل والعطاء، أدركنا أية معان، يجب على المسلمين اليوم أن يتذكروها، للاستضاءة بها في طلبه النهوض والبناء، في عالم لا مكان فيه للتخلف، والجهل، والأمية.
والحدث الثاني الذي تعيشه بلادنا الجزائر اليوم هو حدث ذكرى نوفمبر، الذي يرمز إلى الإحياء، وإلى الانبعاث، وإلى إثبات الوجود، وكما كان محرم هجرة من الشرك، والظلم، والتعصب، فإن نوفمبر مثّل هجرة أخرى إلى عالم الجهاد والتضحية والبناء. إنه التحول من عالم الذل والخنوع والاستكانة، إلى عالم التحرر الروحي، والسمو الوجودي، والعلو الإنساني.
ففي إطلاق الرصاصة الأولى في نوفمبر 1954 على وقع “الله أكبر”، إيذان بمولد وطن، وبعث أمة، وتحرير إنسان، ولابد للمواطن الجزائري، هو الآخر من إخضاع فلسفة ثورة نوفمبر، للتحليل والتأمل لاستخلاص ما يمكن استلهامه من دروس ومعان، ولعل أهم ما يستوفينا من دروس ومعان ما يلي:
-
قوة المستضعفين باتحادهم على الحق، بقهر قوة الطغاة، حينما يجتمع على الظلم، فقد ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾.
-
التجرد من كل أنواع العصبية القبلية أو الحربية، أو الذاتية، بصهر الجميع في بوتقة واحدة هي بوتقة الوحدة الوطنية في مواجهة صلف وغطرسة العدو المتعجرف، الذي أدرك بذلك بداية غروب شمس وجوده في الجزائر.
-
حمل نوفمبر ثقافة جديدة للمواطن الجزائري، هي ثقافة الإخاء، والمحبة، وبذل النفس والنفيس، فانخرط في هذه الثقافة كل الشعب الجزائري بجميع فآته، شباباً، وكهولاً، وشيوخاً، ونساء وأطفالاً؛ فلم يكن من بطل إلا بطل واحد هو الشعب.