من أسهل الأمور وأيسرها على أولي الألباب والنهى والصواب أن يقول المؤمن لأخيه المؤمن: (أحبك في الله) ويرد عليه أخوه: (أحبك الله الذي أحببتنا لأجله) ثم يصله صلة الرحم، والقرابة، والجوار، وصلة الإيمان تحت راية القرآن مع عباد الرحمن، مقتديا بالمهاجرين والأنصار، في جو من التعاون والتكاتف والتسامح…إلا أن هذا السلوك الإنساني ـ سلوك الحب والصلة والتسامح ـ هو من أثقل الأمور على نفوس أولي الخبل والعتاهة والشرود، فلا يستجيبون، ولا إلى المصلحين يركنون.
عندما يبحث المتدبر الواعي في القرآن الكريم والسنة النبوية، والتاريخ الطويل لحقب الحياة البشرية، باحثا عن خفايا وخلفيات الخصومات، والنزاعات، كالفتن المالية، والسياسية، والفكرية، والمذهبية، والعرقية، يجد أن الأسباب والعلل أوهام وظنون، مبدؤها غضب عابر، ثم يدخل الشيطان معركة التشاجر، ويتحول الحوار إلى سب وضرب، وتتحول الفتنة إلى عداوة وحرب…والحلول في خبايا وأسرار النفس البشرية، وحِكَم وأحكامِ القيم الإيمانية…
فما هي عوامل إصلاح ذات البين بناء على هذا التفكير في مجال النفس والإيمان؟ وهل كل العقد والعوائق تُبْحث في مجال النفس البشرية والقيم الإيمانية؟ والجواب: نعم…فسبب التنازع والاقتتال: المال وحب الزعامة وشهوة الحكم للتسلط، أما سبب استمرار العداوة سوء فهم النفس، وضعف الإيمان… {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
ولكن هذه حالة خاصة لما حدث للمسلمين في أحد، فلا تعمم على كل القضايا والمصائب التي تصيب المسلمين فيما بينهم.
قال محمد بن إسحاق، وابن جريج، والربيع بن أنس، والسديِّ: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} أي: بسبب عصيانكم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حين أمركم أن لا تبرحوا من مكانكم فعصيتم، يعني بذلك الرماة يوم أحد…
أجل هذا صحيح، لكن المصائب والنقم هي بسبب تغير ما بالنفس، قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. وقال عز وجل:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}…
من العوامل النفسية لإصلاح ذات البين: أن يتيقن ويقتنع الأطراف أن الصلح ممكن مهما بلغت العداوة والخسائر والزمن.
من الحواجز النفسية التي تحول بين كثير من المتنازعين وتدفعهم إلى رفض الصلح والتسامح، هي تصورهم لما يخيفهم الشيطان به من أنه إذا بلغ الخصام بين الزوجين حد حضور الحكمين، أو بلغ النزاع حد الطلاق الرجعي، أو وصل الأمر بين الجيران إلى الضرب والتخريب أو القتل، أو حدث أن وقعت الحرب بين طائفتين أو بين شعبين فلا صلح ولا مراجعة ولا مودة بعد ذلك!!
هكذا تسول النفوس لبعضهم، وهكذا ينزغ الشيطان بينهم، وهو يقول للزوج: كيف ترجع زوجتك وتصطلح معها وكيف تحبها من جديد بعد أن أهانتك، وكشفت بعض أسرارك، و..و.. ويقول للجار المتنازع مع جاره: كيف تتسامح معه وتعيد علاقة المودة الجوارية معه وقد أفسد لك مالك، وأحرق لك دكانك، ومنزلك، أو قتل ولدك، أو عيرك واتهمك، و..و..ويقول للطائفتين والشعبين بعد الحرب الباردة أو الحارة: يستحيل أن تعود العلاقة بينكم كما كانت، بعد أن وقع كذا… وكذا…وكل هذه التحريشات يرسلها شياطين الجن مع شياطين الإنس، إلى الرافضين الصلح، فيشتد عنادهم، ويستمر رفضهم، ومن ثم يدوم النزاع والصراع،…
لذلك تكون الخطوة الأولى لإصلاح ذات البين هي أن يقتنع الأطراف بأن الصلح وإعادة علاقة المودة بين من كانوا في نزاع وعداوة وحرب وقتال ممكن، وممكن جدا…
أجل، يمكن بفضل الله تعالى مصرف القلوب أن تتحول الحرب إلى سلام، وتتحول العداوة إلى مودة، إذا تعلم الناس كيف يتخلصون من الحقد والحسد والاستكبار…قال الله تعالى:{وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ . وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(سورة فصلت:34ـ36) إذا أحسنت إلى من أساء إليك، وقلت له سلاما بعد أن واجهك بجهل وجاهلية، فإن حلمك في مقابلة غضبه، وإحسانك له مقابل إساءته يجعلانه يستيقظ من غفوته، ويثوب إلى رشده، ويلين بعد الشدة، حتى يصير كأنه ولي لك، حميم أي: قريب إليك من الشفقة عليك والإحسان إليك.
قال الله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}. قال ابن كثير: (يقول تعالى آمرًا بالإصلاح بين المقتتلين الباغين بعضهم على بعض:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} قال: فسماهم مؤمنين مع الاقتتال. وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج ـ المؤمن ـ من الإيمان بالمعصية وإن عظمت، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم. وهكذا ثبت في صحيح البخاري من حديث الحسن، عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوما ومعه على المنبر الحسن بن علي، فجعل ينظر إليه مرة وإلى الناس أخرى ويقول: [إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين][صحيح البخاري برقم :2704]. فكان كما قال، صلوات الله وسلامه عليه، أصلح الله به بين أهل الشام وأهل العراق، بعد الحروب الطويلة والواقعات المهولة).
والدليل من القرآن يا أمة القرآن. فقد أخبرنا الله تعالى بأن الأعداء يمكن أن يصبحوا إخوانا..{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} من الذين كانت العداوة بينهم قبل الإسلام: الأوْس والخَزْرَج، فقد كانت بينهم حُروبٌ كثيرة في الجاهلية تمتد عقودا، وعداوة شديدة تصل إلى الاقتتال، فلما جاء الله بالإسلام ودخل فيه من دخل منهم، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله، متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى..فكيف بالذين هم الآن في الإسلام؟ قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(الأنفال:62)
وفي قصة أبي بكر الصديق رضي الله عنه عبرة، حين حلف ألا ينفع مِسْطَح بن أثاثة بنافعة بعدما قال في عائشةَ رضي الله عنها، ما قال. فلما أنزل الله براءةَ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وتاب الله على مَن كان تكلم من المؤمنين في ذلك، وأقيم الحد على مَن أقيم عليه، وأنزل الله تبارك وتعالى:{وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: بلى، والله إنا نحب يا ربنا أن تغفر لنا. ثم رَجَع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا… هؤلاء الذين آمنوا حقا، يستجيبون للصلح، والإصلاح، ويقولون سمعنا وأطعنا…
وفي قصة يوسف عليه السلام عبرة، فقد آذاه إخوته بأقسى أنواع الإيذاء، ومكروا به شديد المكر، ومع ذلك قال لهم عند لقائهم ما قاله الله تعالى:{قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
وفي موقف الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ألف عبرة وعبرة، حين قال: [يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟] قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: [فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته:{لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ} اذهبوا فأنتم الطلقاء] .
قال السائل: ولكننا لسنا في مستوى إيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولا في درجة إيمان يوسف الصديق الكريم بن الكريم ابن الكريم عليه السلام، ولا في مستوى صاحب الخلق العظيم عليه الصلاة والسلام…أجل، ألم أقل لك: إن القضية قضية إيمان؟ فبقدر ما يكون عندك من إيمان بقدر ما تكون كريما، عفوا، متسامحا، تحب الرفق وتكره العنف، وتفضل الصلح على استمرار العداوة…وكلما ضعف إيمان العبد ازداد عناده وتطاوله على عباد الله تعالى..ولذلك لم يتبع اليهود والنصارى محمدا صلى الله عليه وسلم استكبارا وحسدا، ولم يؤمن كثير من المشركين استكبارا ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
قال السائل: أليس من عوامل الصلح والمصالحة بين الجيران والطوائف والإخوان، التعويضات المالية، والعقوبات الزجرية للمتسببين في النزاع؟..قلت: ألم تفقه الموضوع بعد؟..فماذا تفعل بقول الله تعالى:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}