منذ بضعة أشهر، شرعت دولٌ عديدة، عربية وغربية، في اتخاذ إجراءات عقابية متفاوتة بحق مواطنيها الذين قاتلوا في سوريا ردحاً من الزمن، ثم آثروا العودة إلى بلدانهم لأسباب مختلفة، وتراوحت العقوبات بين السجن لفترات متفاوتة وإسقاط الجنسية وحق المواطنة…
هذه الإجراءات يمكن فهمُها من دول تتخذ موقفا محايدا من الأزمة السورية، أو تناصر الحل السلمي فيها، أو تناصر نظامَ بشار، فهي تريد معاقبة مواطنيها الذين شاركوا في الحرب السورية حتى تردع البقية عن التفكير بالالتحاق بالجبهة السورية.
لكن ما لا يمكن فهمُه إلا في إطار الانتهازية المقيتة والنفاق الصارخ، هو أن تصدر هذه الإجراءات من دول عربية وغربية لم تخفِ يوماً مناصرتها للمعارضة السورية وكرهها الشديد لنظام بشار، وقد قادها كرهُها ذاك، إلى تحريف الثورة السورية عن مسارها السلمي الصحيح وعسْكرتها ثم المساهمة في تقوية المعارضة المسلحة من خلال ضمان تدفق كبير ومتواصل للأسلحة والأموال والمقاتلين المتطوعين عليها من مختلف بلدان العالم، وكانت استخبارات بعض الدول الإقليمية تتخذ من الأردن قاعدة لمتابعة السير اليومي للعمليات القتالية للمعارضة السورية ومختلف الفصائل الإسلامية، وضمان تزويدها باستمرار بالأسلحة والذخيرة والمال، حتى أن ما أنفقته عليها يتجاوز 12 مليار دولار، حسب تقديرات مستقلة، في حين أحجمت هذه الأطراف الإقليمية عن مساعدة المقاومة الفلسطينية في غزة ولو ببندقيةٍ واحدة، وتركت القطاع يتخبّط منذ 8 سنوات في أزمة مالية واقتصادية خانقة دفعت المئات من شبانه إلى ركوب البحر أملاً بـ“الحرقة” إلى أوربا، ما عرّض المئات منهم إلى موت جماعي كما حدث مؤخراً.
وانطلاقاً من ذلك، كيف تقوم هذه البلدان، وخاصة الإقليمية منها، بمطاردة مقاتليها الذين التحقوا يوماً بالجبهة السورية ثم آثروا العودة إلى أوطانهم الآن لأسبابٍ مختلفة لا طائل من الخوض فيها، والحالُ أنها كانت تدعمهم بشتى الوسائل في حربهم ضد النظام السوري جنباً إلى جنب مع المعارضة السورية؟
وتوحي هذه العقوبات والمطاردات بأن هذه الدول العربية والغربية كانت منذ البداية ضدّ تدفق مقاتليها إلى سوريا للقتال ضد نظامها، وهو أمرٌ غير صحيح؛ إذ كانت تعرف أن الكثير من أبنائها يريدون التوجّه إلى سوريا ولكنها لم تسعَ إلى منعهم ما داموا سيقاتلون نظاماً تكرهه وتسعى إلى إسقاطه بأي وسيلة ومهما يكن الثمن، وكانت تنسّق مع بعض الدول الإقليمية لتسهيل مرورهم إلى الأراضي السورية، وكانت بعض الدول العربية -التي تمقت النظام السوري أكثر مما تكره الكيان الصهيوني- لا تكتفي بتجنيد إعلامها لممارسة التحريض الطائفي لإقناع أكبر عددٍ من مواطنيها المحسوبين على بعض التيارات الإسلامية، ولو بشكل غير مباشر، بالالتحاق بالجبهة السورية لقتال النظام “النصيري”، بل تقوم أيضاً بتجنيد دعاتها وشيوخها لاستصدار فتاوى تعتبر ما يحدث في سوريا “جهاداً” وتدعو إلى المشاركة فيه.
وبناءً على هذا الشحن الإعلامي وفتاوى التحريض على”الجهاد”، التحق الكثيرُ من الشبّان المتحمسين بالجبهة السورية، وقاتل بعضهم أكثر من 3 سنوات قبل أن يقرِّر العودة إلى وطنه، فوجد بعضُهم قوانين تجرّم مشاركتهم في الحرب وتنصّ على سجنهم فترات متفاوتة قد تصل إلى 15 سنة بتهمة ممارسة “الإرهاب” في الخارج، ليُقدّموا بذلك ككباش فداء لسياسات حكوماتهم، في حين استمرّت فضائيات هذه البلدان في الدعم الإعلامي للمعارضة السورية والجماعات الإسلامية التي تقاتل إلى جانبها دون أن تقوم حكوماتُها بمعاقبتها على خطابها التحريضي، أو على الأقل لجمها وإجبارها على التوقف عنه، كما لم يُقدّم أي شيخ أو داعية أفتى بـ“الجهاد” في سوريا إلى المحاكمة، مع أن فتاويهم هي التي دفعت هؤلاء الشبان المتحمسين إلى الالتحاق بالجبهة السورية، فلماذا يُعاقبوا وحدهم الآن بتهمة “الإرهاب” في حين يتمّ التغاضي عمّن حرّضهم على القتال في سوريا وصوّره لهم على أنه “جهاد”؟ لماذا لم يُعاقب الجميع أو يُعفى عن الجميع؟
أما المفارقة الأغرب من هذه، فهي أن هذه الحكومات نفسها لا تزال تدعم المعارضة السورية بالمال والسلاح والذخيرة وبعضها مستعدّ لفتح مراكز بأراضيه لتدريب فصائل منها في إطار الخطة الأمريكية لمحاربة “داعش”، مع علمها بأن المعارضة السورية لا تساوي شيئاً أمام قوة الجماعات الإسلامية التي وفِد أغلبُ عناصرها من الخارج، وكأنها تريد القول إنها لم تعد تقبل أن ينضوي أبناؤها في صفوف هذه الجماعات خوفاً على أمنها إذا قرروا العودة إليها، ولكن تقبل أن ينتمي المقاتلون إلى دول أخرى وتدعمهم. أليس هذا تناقضا؟
الواضح أن هذه الحكومات، ولاسيما العربية منها، قد شعرت بأن ترك الكثير من المقاتلين للجبهة السورية والعودة إلى أوطانهم يمكن أن يشكِّل خطراً عليها ويعيد سيناريو المجاهدين الأفغان في التسعينيات، فبدأت تعلن إجراءاتٍ ضدهم للحدّ من عودة آلاف المقاتلين الباقين في سوريا، وكذا إيقاف تدفق المزيد من مواطنيها على سوريا.
هذه الدول، العربية والغربية على السواء، تريد أن تقول لمقاتليها “موتوا هناك في سوريا، لا نريدكم أن تعودوا وإلا ستجدون السجن في انتظاركم أو إسقاط الجنسية عنكم”، وهي بذلك تريد ضرب عصفورين بحجر واحد: إجبار هؤلاء المقاتلين على البقاء في سوريا خوفاً من الملاحقة والسجن في بلدانهم، وضمان الاستمرار في إضعاف النظام السوري حتى يسقط كالثمرة الناضجة في النهاية. وفي أسوإ الأحوال إذا لم يسقط النظام، فإن بقاء هؤلاء المقاتلين في سوريا يضمن إبقاء خطرهم بعيداً عنها سنوات أخرى ريثما تجد لهم حلا، كما أن استمرار الحرب طويلاً يجعل الطرفين المتقاتلين يتفانيان، وهذا ما يحقق مصلحة أخرى لهذه الدول. غير أن الرياح لا تجري دائماً بما تشتهي السفن، وقد يرتدّ السحرُ على الساحر.!