إنني _ وأنا الشيخ الطاعن في السن_ أعاني مرض الحب، وأي حب؟ وقد يعجب العُذال من شيخ في مثل سني، ويعيش بياض عمره، ويعاني من الحب، ولو لم أحب، فذاك هو العجب.
فإذا كان الحب الذي أعانيه هو أسمى أنواع الحب، وهو حب الوطن، بطل العجب. فحب الوطن من الإيمان، هو حديث ولو لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقول المرحوم مولود قاسم.
وإذا كان هذا الوطن، هو الجزائر، لجمال مفاتنها، وأصالة معادنها، ورقة هوائها، وعذوبة مائها، وطيبة رجالها ونسائها، عذرني من عذلني، فشفيعي في كل ذلك ما قاله في جزء من ترابها الشاعر ابن الفكون القسنطيني:
دع العراق، وبغداد وشامهما
فالناصرية ما إن مثلها بلد
بر وبحر وموج للعيون بها
مسارح بانَ عنها الهم والنكد
يا سائلا عن وصفها، إن كنت ذا
نصفٍ، قلِ جنة الخلد، فيها الأهل والولد
ذلك_إذن_ هو شأن حب الوطن الجزائري، ملك على كل وطني صادق شغاف قلبه، وضفاف عقله، ولكن ما تأتيه “الجزائر” اليوم من تصرفات شاذة، وممارسات حادة، توشك أن تزعزع حب أبنائها، وتضعف تعاطف أحبابها.
وإلا، فكيف نفسر -عقليا وسياسيا- طوابير“الحراقين” على ضفاف ساحلنا الجزائري الجميل؟ وكيف نعلل قوائم المنتحرين، من كل الأعمار، وفي كل الأقطار، من بلادنا الفسيحة، الغنية بالخيرات، الفائضة بالمنتجات، الغاصة بالطاقات؟ ومن يُمكنه أن يزيل حيرة الحائر في أمر الجزائر عندما تنطق الإحصائيات بأن ما يقارب المليون من خيرة أبناء الجزائر، من مختلف الكفاءات غادروا الجزائر في أقل من عشر سنوات، ومثلهم من تتأهب للمغادرة؟
هل ضاقت الجزائر -على رحابتها- بجيرة أبنائه، فزهدت فيهم، وألقت بهم في أحضان بلدان أخرى، حيث يعانون، في معظم الأحيان الذل والهوان. ويقول علماء النفس أن الزوجة الفاشلة، تلقي بزوجها، إلى أحضان امرأة أخرى.
فما هي -والحالة هذه- أعراض التأزم الجزائري الذي يوشك أن يضاعف من حيرة الحائر في أمر الجزائر؟
فعندما يصبح ابن الوطن لا يأمن على نفسه، أو غرسه، أو فرسه، فإنه يتمنى أن يدفن في رمسه.
وعندما يُهدد السائح الأجنبي في الجزائر، في ترحابه، وتجواله، وأمواله، وعياله، فكبّر على سمعة الوطن ورجاله، وعلى قيمة المواطن وآله.
وتزداد حيرة الحائر من أمر الجزائر عندما، يتأمل الواقع الجزائري، فيجده ملبدا بالغموم، مكبلا بالهموم، تطبعه الضبابية في الإعلام، وتحكمه انتهازية القائمين على شأنه من الحكام.
فالجزائري يعيش كالأبله، في مسرحية هو صانعها، وكالأصم في زفة، هو ممثل عريسها، ولا يدري في حقيقة أمره ما يُفعل به ولا بوطنه..
نريد أن نلجأ إلى ميدان من ميادين الحياة الوطنية، نتخذه ملاذا لتبديد حيرتنا، فلا نجد.
فالصراع على أشده في عالم السياسة، ولم نستبن بعد، معالم الخيط الأبيض من الخيط الأسود، والنزيف الاقتصادي، يفسح المجال واسعا أمام، المفسدين، والمبذرين، والمرتشين، والمضاربين، الذين لا يخافون في الاقتصاد الوطني، قيمة، ولا وطنية.
وهذا المجال التربوي يزداد تدهورا منذ أسندت أموره إلى غير أهله، فكونت لنا أجيالا من المدمنين على العنف، وعلى كل الآفات الاجتماعية، فاصطدم بهم في المؤسسات التربوية نفسها، وفي محطات النقل العام، وفي الملاعب وفي الأسواق، حتى أصبح الراكب من تلمسان إلى تمنراست لا يخشى الخنزير والذئب المتكاثرين على دابته، ولكنه يخشى المراهقين من خريجي مؤسسات التربية، وإعادة التربية.
وتعالوا بنا، إلى الصحة البدنية والصحة العقلية، إلى المستشفيات، والحياة الثقافية، فإنك ستصدم بهزال البدن المنبوذ في المستشفيات، وبفساد العقل في الجامعات.
ماذا بقي للجزائري –إذن- من مجال يمكنه فيه، أن يعالج حيرته، وأن يجد فيه المسكن لتساؤلاته وحسرته؟
إن الوقت جد عصيب، وإن الأمر الجزائري لحقا مريب، والأنكى من كل هذا هو أن الأفق مسدود، والأمل محدود، وكل تساؤل-بشأنه- مرفوض ومردود.
إننا -على العكس من كل هذا المظاهر السلبية المشاعة- يحدونا بصيص من الأمل، بأن حل التأزم الجزائري يمكن أن يوجد، بفضل المخلصين من أبناء الجزائر، وهم كثر.
إن الحل، يبدأ بالوعي بالتأزم، فإذا أدركنا أننا متأزمون، واعترفنا أننا متوقفون، أمكننا أن نبحث عن منهجية الخلاص مما نحن فيه.
وإن الخلاص يبدأ بالشجاعة في الاعتراف بالأخطاء والعمل على تصحيح الأخطاء، فالمدرب الصحيح هو الذي يُخرج من ساحة اللعب، اللاعب الذي لم يكن موفقا في الأداء، ويغيره بمن هو خير منه.
على أننا في الجزائر قد تجاوزنا مرحلة البدائل إلى مرحلة التغيير الجذري: ولم يعد يجدي الترميم، وإنما المطلوب هو إعادة التصميم.
وبلادنا والحمد لله، تعج بالطاقات والكفاءات، داخليا وخارجيا، فينبغي إحداث التغيير الكامل والشامل على مستوى كل المؤسسات، إذا أردنا أن نُخرج الجزائر من هذه الغيبوبة التي طالت على المستوى المعترك المحلي والدولي.
فالتحديات التي نواجهها، تتطلب حزما وعزما، لا يرقعان بالكسالى.
هناك نداء عاجل من عمق أعماق الجزائر، نُهيب بكل جزائري مخلص، أن يعي خطورة الموقف، وأن يقوم بالاستجابة التي تكون في مستوى التحديات، وعلى جميع المستويات.