يوشك الرّبيع العربي –مشرقًا ومغربًا- هذا الذي عمل مُزارعوه على اخضرار أشجاره، وازدهار أزهاره، وترويج أفكاره، وتماسك ثواره، وتزايد أنصاره. يوشك هذا الرّبيع العربي، وقد خبا أواره وتكلّست أشجاره، وذبلت أزهاره، وتبلدّت أفكاره، وتشاكس أنصاره، وتقاتل ثواره، بعد أن هبّت عليه رياح الجنوب والفتن، وأتت عليه عواصف الشمال، التي تنذر بالحمم، وتلقي بصواريخها على الأمم، وتدوس على كلّ المبادئ والقيم.
يوشك –إذن- أن يتحوّل الرّبيع العربي إلى شتاء غربي، لا يُبقي ولا يذر، إذ ينذر بالقضاء على أنواع من العقائد في البشر.
إنّ الصراع –اليوم- قد انتقل من صراع بين الرأسمالية والاشتراكية، وبين الشمال والجنوب، إلى صراع بين الإيديولوجية اليهودية، الصليبية، العلمانية، الإسلاموفوبية من جهة، وبين العقيدة الإسلامية، الإنسانية، التوّاقة إلى التحررية من جهة أخرى.
ودع عنك ما يُرفع من شعارات مظلومة، خلاّبة كذّابة، كمحاربة الإرهاب، والقضاء على جيش النصرة، والدولة الإسلامية بالحِراب، فما ذلك إلا سراب يعقبه خراب.
إنّ محاربة التطّرف والغلو، لا يكون بالحرب والنزال، ولا بقتل المدنيين من النساء والشيوخ والأطفال، فالإسلام أوّل عدّو للتطرّف، لأنّه دين الاعتدال والوسطية في تأكيده في أكثر من آية على ذلك {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} النساء171، وفي قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}البقرة 143. وفي قوله: {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}البقرة 279.
إنّ القضاء على التطرّف مهمة العلماء والمفكرين، الذين يقارعون الحجّة بالحجّة، ويناوئون المتطرّفين بالحوار على أساس الكتاب والسنة.
كما أنّ القضاء على الغلّو والتطرّف مهمة الحكام العادلين الذين يقذفون بالعدل على التطرّف الذي سببه الظلم، والإجحاف، فيدمغه فإذا هو زاهق، ولكن يا لهول ما نرى! نرى تحالفًا بين المستكبرين والظالمين والمستبِّدين للتّصدي للفكر المتطرّف الذي يرفع هو الآخر شعار الحكم بالعدل، والاحتكام إلى شرع الله في القوانين، وهي كلّها قضايا قابلة للنقاش من جانب العلماء والمفكرين.
أمّا أن نملأ الأرض والسماء جورًا وخوفًا ورعبًا، فإنّ الفساد لا يُزال بالفساد، وإنّ الظلم لا يُرفع بالظلم. لقد قلنا ولا زلنا نقول بأنّ بعض سلوك الدولة الإسلامية كقتل الأسرى، وسبي الحرائر، واضطهاد المخالفين في الدين ليس من الفهم الصحيح للإسلام، وإنّ الإسلام أوّل من يبرأ من مثل هذا الفعل، ولكن تبقى مهمة تأصيل ذلك، وتوضيحه للأسانيد مهمّة الرّاسخين في العلم والدين من العلماء والمفكرين.
غير أنّ ما نشاهده اليوم من قرع طبول الحرب، وإرسال الصواعق على شعبي العراق وسوريا وتشجيع الفتن في اليمن، ومصر، وليبيا، وغيرها من الأماكن. إنّ ذلك كلّه هو التطرّف بعينه في الحكم، وهو الغلوّ ذاته في استخدام القوّة، وهو الكفيل بإحداث ردّ فعل مضاد من شأنه أن يدفع بالشباب إلى مزيد من التمرّد والتطرّف، وأن يكسب المزيد من حشد المتطوّعين للدفاع عن السيادة المهدورة واستعادة الكرامة المغدورة، والبحث عن “الطائفة المنصورة”.
إنّ التدخل بالقوّة في أيّة بقعة من العالم وتحت أيّ غطاء كان، هو الشرّ بعينه، وإنّ تأييد الشرّ أو تدعيمه بالقتال أو بالمال أو بالرجال أو بالأعمال، هو أشرّ من الشرّ. لقد كنّا أوّل المندِّدين بما يقوم به البعض منّا باسم الإسلام، وإنّنا لا نبرر –مطلقًا- بعض ما قاموا به من قول أو فعل باسم الإسلام، ولكن لا ينبغي أن يُعاقب الكلّ بجرم البعض، ولا أن يتخذ ذلك ذريعة لخرق سيادة الأوطان، وسلم الشعوب.
فلا يوجد من هو اليوم، وكيل على الإنسانية، يقتل ويدّمر ويعتدي باسمها، فالإنسانية اليوم بلغت من الوعي العقلي، والرّشد الفكري ما يجعلها قادرة على حماية ذاتها دون أيّ تكليف من أحد، كما أنّ الإسلام المستهدف من هذه الحرب العالمية الظالمة يملك في ثناياه وبين صفوف أتباعه، القدرة على التصدي لكلّ أنواع المساس بالحق الإنساني الذي يكفله الإسلام بشرط توفّر العدل والحريّة والمسؤولية.
ويتملكنا العجب –حقًا- عندما نرى ممن يتصدّى لأخطاء داعش، من يأتي بأفعال أسوأ مما يأتيه الخصم، فالذي بيته من زجاج لا يمكن أن يرمي الناس بالحجارة. فالذي يعدم العلماء، والذي ينكّل بالمخالفين، والذي يغتصب الحكم من مستحقيه، والذي يكمم أفواه المواطنين… الخ. إنّ مثل هذا لا يصلح أن يكون حكمًا، فإذا كان ضالعا في الكيد، ووَضع المؤامرات، والتدخل في شؤون الشعوب لا يمكنه أن يكون عدلا في قضايا الإنسان والإنسانية، ولا في قضايا الإسلام والمسلمين، ذلك أنّ فاقد الشيء لا يعطيه.
لقد بان الصبح لكلّ ذي عينين، وحصحص الحقّ وتبيّن الرّشد من الغي، فلا يزايد باسم الإسلام –على الإسلام- أحد. فإذا أردنا القضاء على ظلم داعش، أو جيش النصرة، فلنبدأ بنشر العدل، والحق، فالظلم ظلام وليل، والعدل نور وضياء، وإنّ الليل يخاف من النهار، وإنّ الظلم يخاف من العدل.
فليس –والله- سوى العدل كدواء ناجع مما نحن فيه، أما حشد القوّة، وإشاعة الرّعب، وإرهاب الآمنين المطمئنين، فلا يعدو أن يكون صبًا للزيت على النار، وحال من يفعل ذلك أشبه بحال من يكتب على الماء، وتلك هي المضحكات المبكيات.