هل هو الحنين إلى "عهد الجزائر فرنسية"؟! أ.عبد الحميد عبدوس
oulama amanaالأربعاء 22 ذو القعدة 1435هـ 17-9-2014م
20 2 دقائق
بالتزامن مع الدخول المدرسي 2014-2015 بدأت بعض الصحف الفرانكفونية تعزف نغمتها القديمة المستهزئة بالثوابت الوطنية، والمتحاملة على محتوى المنظومة التربوية، فقد افتتحت جريدة وطنية موضوع صفحتها الأولى بهذا العنوان التضليلي المستفز: “هذه الثوابت الوطنية التي تقسم الجزائريين”!
وكتبت صحيفة فرانكفونية أخرى افتتاحية اعتبر كاتبها أن: “سنوات 1980 إلى 1990 ألحقت أضرارا كبيرة بالمدرسة الجزائرية” وهو يقصد بطبيعة الحال دخول أمرية المدرسة الأساسية حيز التطبيق، ونتذكر جميعا تلك الأصوات المرعوبة التي أطلقتها في مطلع التسعينيات أمهات مستغربات تعودن قضاء عطلة نهاية الأسبوع في باريس للتسوق وتصفيف الشعر، ومتابعة آخر صيحات الموضة، والتي تقول بأن أطفالنا أصبحوا غرباء عنا! لأنهم أصبحوا يتكلمون باللغة العربية الفصحى التي تعلموها في المدرسة، ويتحدثون مع أوليائهم على التوجيهات الأخلاقية المستمدة من دروس التربية الإسلامية التي كانت تشكل مادة مهيكلة في الطور الأول من المدرسة الأساسية، وهذه الصحيفة التي ترفع شعار الحق في المعرفة وواجب الإعلام، هي التي كتبت في أواسط التسعينيات على صدر صفحتها الأولى: “نهاية العهد العربي الإسلامي في الجزائر”.
وقد عادت اليوم صحيفة فرانكفونية أخرى لتكتب عن ما أسمته أكذوبة الانتماء العربي الإسلامي للجزائر تحت عنوان: “العالم العربي الإسلامي هذه الهوية المضللة”!
هذا الهجوم الشامل والمتناسق في منابر إعلامية جزائرية تصدر باللغة الفرنسية على عناصر الهوية الوطنية والثوابت الوطنية، وخصوصا الركنين الأساسيين من الأركان الثلاثة للهوية: الإسلام والعربية، وهو مرحلة أخرى من مراحل مخطط مسح الشخصية الجزائرية، والتشكيك في ثوابتها، وإعادة الجزائر إلى مرحلة ما قبل استرجاع السيادة الوطنية، وإلحاقها بممتلكات فرنسا في ما وراء البحر.
هذا الفجور الثقافي والأخلاقي عبرت عنه صراحة المديرة السابقة لمسابقات ملكات جمال فرنسا جونفياف دوفونتني التي حضرت إلى الجزائر كضيفة شرف في حفل اختيار ملكة جمال الجزائر، الذي نظم بفندق الهيلتون يوم الجمعة 5 سبتمبر 2014، وحضره بعض وزراء الحكومة الجزائرية، وعدد من رؤساء المؤسسات والشخصيات الفنية والثقافية، ولعل الجو “الباريسي” الذي وجدت السيدة جونفياف دوفونتني نفسها تتفاعل معه هو الذي دفعها لأن تصرح بحماس في كلمتها الملقاة في حفل اختيار ملكة جمال الجزائر -حسب العبارات التي نقلها تلفزيون النهار-: “هن فتيات يمثلن هذا البلد الجميل ألا وهي الجزائر الفرنسية، هي الجزائر بل فرنسية في نفس الوقت، نحن الآن في فرنسا، فالبحر الأبيض المتوسط هو الذي يفرقنا، فالجزائر مثل غوادلوب ومارتينيك”!
يا لها من كلمات وإن اعتبرها الأصلاء من أبناء الجزائر التي كافحت لمدة 132 سنة لاستعادة استقلالها، وضحت بملايين الشهداء مسيئة وجارحة وبغيضة، إلا أنها تعبر عن حقيقة مشاعر تلك الفئة المتنعمة بخيرات الجزائر، وامتيازات الاستقلال، ولكنها تريد أن تبقى فرنسية في الفكر، واللغة، والمظهر، والوجدان، فئة تعتبر الثوابت الوطنية التي ضحى من أجل إعادة الاعتبار لها أجيال متعاقبة من المجاهدين والمناضلين، والشهداء، مجرد مظاهر مضللة، أو عقبة في طريق التقدم والعصرنة، ومشكلة تفرق الجزائريين!
لقد عبرت جونفياف دوفونتني بصدق عن انطباعها بما تشاهده وعايشته في “الجزائر الفرنسية” جزائر ذكرتها بنمط الحياة في فرنسا، وفي مستعمراتها، مثل غوادلوب ومارتينيك، لأن البلد الذي ينظم مسابقة هدفها تشجيع التبرج والانحلال الأخلاقي، والاستغراب الثقافي بتشجيع رسمي، وإسراف مادي، مسابقة لا تمت بصلة لتقاليد الشعب الجزائري وقيمه الدينية، وخصاله الحضارية، مسابقة لا تشكل سوى مظهر من مظاهر التجسيد العملي لمقولة المؤرخ العربي ابن خلدون: “المغلوب مولوع بتقليد الغالب” تفتح الباب واسعا أمام مختلف التأويلات وشتى الاحتمالات والظنون والأطماع بما فيها الترحيب بعودة الماضي الاستعماري!
والمريب أن الصحف الفرانكفونية أو جزءا كبيرا منها لم تعر موضوع “الخرجة الاستعمارية” لضيفة شرف مسابقة ملكة جمال الجزائر أهمية كبيرة، فبعضها اكتفى بنقل وقائع الحادثة والإشارة إلى أن وزيرة البريد وتكنولوجيا الإعلام والاتصال، ووزيرة التضامن الوطني وقضايا المرأة من الحفل بعد كلمة الضيفة الفرنسية، وبعضها اكتفى بالسخرية من الموضوع وتجسيد استخفاف السيدة جونفياف دوفونتني باستقلال الجزائر في رسم كاريكاتوري، وبعضها الآخر اكتفى بنقل فقرات من بيان وزير الشباب السيد عبد القادر خمري الذي أدان تصريح المديرة السابقة لمسابقة ملكات جمال فرنسا.
وإذا كانت معالجات الصحف الفرانكفونية قد اختلفت في التعامل مع تلك الإهانة البالغة التي وجهت للجزائر، فإنها كادت تتفق في كتاباتها على الانتقاد والسخرية من موضوع الثوابت الوطنية!