انتهت حرب غزة بعد 51 يوماً كاملة، لكن تداعياتها وآثارها ستخيّم طويلاً على المنطقة وعلى الكيان الصهيوني معاً. وبقدر ما خلفت الحرب من دمار واسع في القطاع وتشريد لمئات الآلاف من سكانه، وتهديم لـ“بقايا” بنيته التحتية التي نجت من حربي 2008-2009 و2012، وإصابة الكثير من الأطفال الفلسطينيين بصدمات نفسية من جراء وحشية القصف الصهيوني، فإنها تركت بالمقابل أسوأ الآثار في نفوس الكثير من جنود الاحتلال الذين شاركوا في الغزو البري للقطاع، وأصابتهم بدورهم بصدمات نفسية شديدة {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ}.
تؤكد شهادات العديد من عائلات الضباط والجنود العائدين من الحرب البرية التي خاضوها مع المقاومة، وكذا شهادات الأطباء الصهاينة، أن العدوّ قد فوجىء ببسالة عالية من المقاتلين الفلسطينيين، وثباتهم في القتال، وصمودهم منقطع النظير، ما يرجّح إحجام العدوّ عن اقتحام غزة مستقبلاً بعد أن وقف على حقيقة الوضع في الميدان أثناء الإلتحام المباشر، خوفاً من أن يُمنى بهزيمة لا يستطيع مداراتها.
إلى ذلك، ذكرت الإذاعة العبرية مؤخراً أن إقبال الجنود والمستوطنين على المراكز النفسية قد تضاعف في الآونة الأخيرة بنسبة 100 بالمائة، بسبب استمرار تساقط الصواريخ الفلسطينية على مختلف المستوطنات والمدن الصهيونية في فلسطين المحتلَّة، وكذا ما لاقاه الجنود من أهوال في الحرب البرية على يد جنود المقاومة.
وأكدت الإذاعة العِبرية أنها تلقت اتصالاتٍ كثيرة من آباء اشتكوا فيها من تعرّض أبنائهم الجنود لصدمات نفسية في حرب غزة، وطلبوا من المرشدين النفسيين مساعدتهم على تهدئة “فزع أبنائهم”، في حين كشفت مصادر طبية النقاب عن تعرّض الجنود الذين أصيبوا بجروح متفاوتة في الحرب إلى “صدمات نفسية قاسية وكوابيس مزعجة من هول مشاهد الحرب، ولذا وجد الأطباء أنفسهم مضطرين لحقنهم بمواد مخدّرة حتى يتمكن الجنود المصابون من النوم”، وأكدت هذه المصادر الطبية أن الاصابات النفسية الأخطر لم تصل بعد إلى أقسام التأهيل النفسي والاجتماعي بالمستشفيات لأن جروح الجنود المصابين بليغة وتتطلب المكوث طويلاً في المستشفيات لتلقي العلاج المادي قبل تحويلهم إلى العلاج النفسي من الصدمات النفسية الشديدة التي انتابتهم خلال الحرب.
من جهته، أكد موقع “واللا” العبري أن “الجنود الجرحى يعانون صدماتٍ نفسية حادة من جراء المعارك الضارية التي خاضوها في غزة باعتراف الأطباء وعائلات الجنود”، وهو ما تطلّب تجنيد طواقم طبية نفسية متخصصة لاعادة تأهيل الجنود نفسياً بعد علاجهم من جراحهم، ونقل الموقع عن إحدى عائلات الجنود الجرحى قوله إن “إبنها لم يعد ينام من هول ما رآه في الحرب، ما يجبر الأطباء على حقنه بمواد مسكِّنة لكي يتمكن من النوم”، وأضاف الموقع أن “الجنود يعانون كوابيسَ خلال الليل وخوفاً في ساعات النهار وبلغت الأمور إلى حد فقدان سيطرة بعض الجنود على أنفسهم” بحسب اعتراف البروفيسور دانا مرغليت للموقع، مؤكدة أن “الذكريات الصعبة ستبقى ترافق هؤلاء الجنود المصدومين سنوات طويلة”.
هي اعترافاتٌ تؤكد مدى شراسة المقاومة وبسالة أبطالها الذين واجهوا جيش الاحتلال بشجاعة منقطة النظير حينما تورّط في غزو القطاع بريا معتقداً أن جنوده ذاهبون إلى “نزهة” على غرار حروبه مع الجيوش العربية النظامية بين 1948 و1973، ففاجأت المقاومة جنوده بما لم يكونوا يحتسبون وكبّدتهم خسائرَ بشرية بلغت 72 جندياً قتيلاً و1621 جريحاً، وهي خسائر غير يسيرة لجيش يُصنّف في المرتبة الرابعة عالمياً، على يد مقاومة محدودة العدة والعتاد، حيث يواجه 15 ألف مقاوم فلسطيني مسلح بأسلحة خفيفة نحو 83 ألف جندي صهيوني يتمتع بقدر عال من التسليح الحديث.
وحينما يقول رئيس وزراء العدو نتنياهو إنه سحب جنوده من غزة “خوفاً عليهم من القتل أو الأسر”، فإن هذا التصريح يُعدّ اعترافاً صريحاً بهزيمة جيشه في الحرب البرية أمام صناديد المقاومة، ولم يكن أمام هذا الجيش سوى الاستمرار في قصف غزة بالطائرات والمدفعية والزوارق البحرية بضعة أيام وقتل المزيد من الأطفال والنساء والشيوخ بكل خسة وجبن قبل أن يقبل بوقف إطلاق النار.
وفي وقت “يجتهد” فيه المتصهينون العرب لتتفيه إنجاز المقاومة وانتصارها والتركيز على خسائر سكان غزة وعمرانها والسكوت عن خسائر العدو.. فإن نتائج استطلاعات الرأي المتعاقبة في الكيان الصهيوني تشير كلها إلى مدى الإحباط الشديد الذي يشعر به الصهاينة من مآل الحرب حيث يؤكد غالبية السكان أن جيشهم “لم ينتصر في الحرب” وأن حماس فرضت منطقها وشروطها لانهائها.
أما لجنة التحقيق التي أعلن البرلمان الصهيوني “الكنيست” عن تنصيبها قريباً للتحقيق في “الإخفاق” في حرب غزة، فهي ردّ آخر بليغ على هؤلاء المتصهينين الذين آلمهم انتصارُ المقاومة وهم الذين كانوا ينتظرون اندحارها وسحقها لاستكمال مشهد تصفية القضية الفلسطينية، ولكن الله خيّب ظنهم ودحر العدو الذي تحالفوا معه دون أي شعور بالخزي والعار، وردّ كيدهم جميعاً في نحورهم.
المقاومة لم تحرّر شبراً واحداً من الأراضي خارج غزة، هذا صحيح، ولكن الصحيح أيضاً أنها صمدت 51 يوماً من القتال والقصف الشرس بالطائرات والدبابات، في حين لم تصمد الجيوش العربية سوى بضعة أيام في مختلف حروبها مع الجيش الصهيوني وكانت تُهزم في كل مرة، وكان الجنود الصهاينة يعودون من هذه الحروب وهم يغنون ويرفعون إشارات النصر، أما هذه المرة فقد عاد الكثيرُ منهم بصدمات نفسية شديدة ستبقى تلاحقهم طويلاً وقد تلازمُ بعضهم طيلة حياته.