ما تزال المحاكم المصرية تصدر كل أسبوع أحكاما بإعدام العلماء وطلبة العلم بحجة الانتماء إلى حركة الإخوان المسلمين وممارسة الإرهاب . وكلما قرأت خبرا في هذا الموضوع تذكرت قرارا نطق به قاض مصري في عام 1966 حكم بإعدام المفكر سيد قطب لنفس الأسباب.
ولم يدر ذلك القاضي في تلك اللحظة أنه كتب بقراره هذا شهادة الخلود لسيد قطب عوضا من شهادة الوفاة. فقد أعدم سيد قطب شنقاً في 29 أغسطس 1966 لكن أفكاره منتشرة في كل أنحاء العالم وترجمت كتبه إلى لغات مختلفة، وأنجزت حولها دراسات وبحوث في جامعات عربية وغربية.
وبمناسبة ذكرى رحيله، أذكر في هذا المقال بعض صفحات من سجل علاقاته بالجزائر، مقتصرا على كتاباته في جريدة البصائر، لسان حال جمعية العلماء الجزائريين.
خصَّ سيد قطب صحيفة “البصائر” التي تصدرها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بأربع مقالات تدعيمًا لنشاطها الإصلاحي، وتعزيزاً للصحافة العربية في الجزائر، وقد نشرتها بعد أن قدمته بكلمات تقول فيها: ” وجد الأستاذ (سيد قطب) في صحيفة البصائر التي هي اللسان المعبِّر عن كفاح الجزائر في سبيل المحافظة على إسلامها وعروبتها وربط نهضتها بالعالم الإسلامي صدى دعوته الصارخة فأحبها، وبادر بإرسال هذه الكلمة البليغة الجامعة إليها وهي إذ تحلي صدرها بها، إنما تنشر صفحة من جهاد أحد العلماء العاملين من أعلام هذه النهضة”*.
وقبل الحديث عن هذه المقالات، نشير إلى أن “البصائر” نشرت مقالات لكتاب آخرين، نقلاً عن جريدة “الإخوان المسلمون”، التي يشرف عليها سيد قطب. كما أقدمت صحف جزائرية أخرى على إعادة نشر مقالات سيد قطب على صفحاتها، لما يتمتع به من شهرة واسعة، وسمعة طيبة في الجزائر. نذكر على سبيل المثال جريدة “المنار” التي نشرت مقالتين لسيد قطب في العام 1952، نقلا عن جريدة “الدعوة” ومجلة “الرسالة”. ونقلت لقرائها مقالاً للإمام حسن البنا، نشر في العدد الثاني والثلاثين من جريدة “الإخوان المسلمون”. وقد قام شباب جمعية العلماء الجزائريين بترجمة مقالات سيد قطب، ومقالة أخرى بعنوان “عبقرية حسن البنا”، نقلاً عن جريدة الدعوة، ونشرتها في جريدتها الناطقة بالفرنسية “الشاب المسلم”.
في 23 يناير 1953، نشرت “البصائر” المقال الأول لسيد قطب، تحت عنوان “كفاح الجزائر”؛ بَّين فيه سياسة فرنسا التي تهدف إلى محو الثقافة الإسلامية، واللغة العربية في الجزائر، أملا في سلخها من العالم الإسلامي على نمط الأندلس، وقد جاء فيه: “كفاح الجزائر في سبيل البقاء، وكفاحها في أن تظل عربية وأن تظل مسلمة. هذا الكفاح له في نفسي دلالة خاصة قد لا تخلص لي من كفاح أي بلدآخر من البلاد العربية أو البلاد الإسلامية. لقد أريد بالجزائر أن تكون أندلساً جديدة، أريد بها أن تنسلخ من جسم الوطن العربي الإسلامي، وأن تبتلعها الصليبية الأوروبية الجديدة. ومضى أكثر من قرن من المحاولات الجبَّارة لا تني لحظة ولا تكف واستخدمت كل الوسائل التي لا تعرف البشرية أقسى منها ولا أمكر منها ولا أفتك منها”.
وكتب سيد قطب مقاله الثاني تحت عنوان “نحن خير أمة أُخرجت للناس”، جاء فيه على الخصوص: “هذه المزق التي صار إليها الوطن الإسلامي بفعل الاستعمار الغربي. هذه الأوطان المتعددة التي أنشأها الاستعمار من الوطن الإسلامي الواحد. هذه الرايات المختلفة التي اتخذناها من مزق الراية الواحدة. هذه كلها قد أحالتنا بعضنا عن بعض غرباء”.”انعكس هذا التفرق على واقع المسلمين فأضاعوا القدس كما فقدوا بالأمس الأندلس، فاليهود رغم اختلاف جنسياتهم وتعدد أوطانهم وحدوا صفوفهم وجمعوا قواتهم لاغتصاب فلسطين. وهذه الأرض المقدسة حررها من الصليبيين صلاح الدين الأيوبي الذي ليست له راية سوى راية الإسلام يدفع عنها. وليس له وطن إلا الوطن الإسلامي يدفع عنه وليست له جنسية إلا الجنسية الكبرى التي مَّن الله بها على الأمة الإسلامية”.
وخيرية الأمة الإسلامية في نظر سيد قطب “لم تكن محاباة ولم تكن وراثة إنما بَّين الله أسبابها وقواعدها في الآية الكريمة. · “كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ” ﴿١١٠﴾ …
وهل يمكن للمسلمين أن يتوحدوا في ظل التآمر العالمي على الإسلام وهيمنة الدول الاستعمارية على كثير من الأقطار الإسلامية، وتسلط الأنظمة الحاكمة على شعوبها؟ يجيب سيد قطب قائلا: “إن العقبات في طريقنا شتى. وإن الاستعمار لنا بالمرصاد. ولكننا نملك أن نحطم العقبات ونملك أن نغلب الاستعمار على أمره. إن الاستعمار الذي يغلبنا ليس هو استعمار الحديد والنار. فالاستعمار لا يملك أن يقيم جنديا من جنوده على كل فرد من الملايين الكثيرة في ذلك الوطن الإسلامي. إنما الاستعمار هو ذلك الذي في صدورنا وقلوبنا والسبب هو خلو ضمائرنا من الإيمان بالله، وامتلاؤها بالخوف والطمع”.
نشر سيد قطب مقاله الثالث في 13 مارس 1953، تحت عنوان “طريق النصر”، بَّين فيه سنن النصر منطلقا من قوله تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41
فالمسلمون ينتصرون على أعدائهم حينما يتشبثون بدينهم، وينهزمون حين ينحرفون عن عقيدتهم. وقد تجسدت هذه القاعدة في غزوة أحد ويومَ حنين. والعقيدة الإسلامية كما عرَّفها سيد قطب هنا وفي جميع مؤلفاته: “ليست عقيدة لاهوتية، تنزوي في المسجد، وتنتهي بأداء العبادات، إنما هي نظام حياة، ودستور مجتمع وقانون دولة”.
وختم سيد قطب مقالته بتأكيد هذه القناعات، التي يجب أن تظل راسخة في أذهان المسلمين: “إذا نحن آمنا حق الإيمان أدينا ما يُحتمه علينا إيماننا من استعداد، فكان لنا النصر لأننا نزيد على قوة أعدائنا قوة العقيدة … هذا هو طريق النصر… وهو أمامنا مفتوح … وليس لنا طريق سواه…فلنعرف الطريق، ثم نطلب النصر من الله”.
واستهل سيد قطب مقاله الرابع، بالتفاؤل بمستقبل الإسلام، وخاصة إذا اعتمد الدعاة، والعلماء على منهج دعوي، يتسم بالواقعية، والوسطية، ودعا إلى وضع إطار يرشد مسار الدعوة، ويحمي مكاسبها. وليس أفضل من اغتنام فرصة الحج، “مؤتمر الدعوة الإسلامية”، كما سماه سيد قطب، لاجتماع العلماء، ودراسة مشكلات المسلمين في جميع أبعادها؛ لا ليكون مهرجاناً للخطب، وإنما جلسات علمية منظمة، ولجان تعد البحوث حول كل مشكلة، وتتألف كل لجنة من خبراء، وتنتهي بقرارات يلتزم بها علماء المسلمين وقادتهم.
ويكون هذا المؤتمر “الخطوة الأولى لإحياء الإسلام عقيدةً ونظاماً وشعوراً وعملاً” واختار سيد قطب أن يعقد المؤتمر في مكة وليس في غيرها من المدن الإسلامية وفي فترة الحج وليس في الأيام الأخرى لسبب ديني محض. “ولقد كان في وسعي أن أدعو إلى عقد هذا المؤتمر في القاهرة مثلاً، وهي مركز العالم الإسلامي، وفيها وسائل الدعوة ميسرة من صحافة وإذاعة وطرق اتصال، ولكنني دعوت إلى عقد هذا المؤتمر في موسم الحج، لأن في إقامته هناك إحياء لفريضة إسلامية، وتنفيذاً لاتجاه إسلامي… ونحن حين نبدأ بإحياء الإسلام يجب أن نبدأ بشعائره وفرائضه وسننه وتوجيهاته”. فمتى يتحقق هذا الحلم الكبير؟
واعترافا بجميل سيد قطب وقف الجزائريون إلى جانبه أيام محنته، وأسرعت جمعية القيم إلى مراسلة الرئيس جمال عبد الناصر للإعفاء عنه أو تخفيف الحكم عنه. ودفعت نظير موقفها المشرف ثمنا باهظا عندما صدر قرار حكومي بحل هذه الجمعية بحجة التدخل في شؤون دولة صديقة.
لقد كتب سيد قطب عن كفاح الجزائر في صحيفة البصائر وفي صحف عربية أخرى نتمنى أن تجد باحثا صادقا وجادا يجمعها ويدرسها لبرز جوانب مجهولة من حياته النضالية، ويستخرج من بدائعها مواقفه المشرفة تجاه قضايا التحرر في العالم العربي.