كما كان منتظراً، آلت المفاوضات بين الوفدين الفلسطيني الموحّد والصهيوني بالقاهرة إلى الفشل وتواصلت الحرب من جديد منذ الثلاثاء الماضي، وتنحو هذه الجولة من الحرب لتأخذ شكل حرب استنزاف من خلال تبادل القصف بين الطرفين حيث تقوم المقاومة الفلسطينية بإطلاق الصواريخ على عدد من المستوطنات والمدن الصّهيونية ويقوم طيران العدو ومدفعيته بقصف البيوت في غزة، ويُعتقد أن هذا الشكل من الحرب سيستمرّ طويلاً.
كان فشلُ المفاوضات في مصر أمراً متوقعاً بالنظر إلى التصلّب الكبير الذي أبداه الجانب الصهيوني خلال 12 يوماً كاملاً حاول خلالها كعادته انتزاع كل شيء من الفلسطينيين دون أن يقدّم لهم بالمقابل شيئاً مثلما تعوّد أن يفعل خلال ماراطون المفاوضات العبثية مع السلطة الفلسطينية طيلة 21 سنة. إلا أن الوفد الصهيوني وجد هذه المرّة مفاوضين يتمتعون بقدر كبير من الصلابة والإصرار على تحقيق مطالبهم العادلة وعدم التنازل عن أيّ منها، وقد حاول العدوّ تقسيم صفّ الوفد الفلسطيني الموحّد، لكن الوفد بقي متماسكاً وموحداً يرفع المطالب نفسها ويرفض التراجع عنها قيد أنملة إلى غاية آخر يوم منها، ما يؤشّر لنجاح الوحدة الوطنية بين حماس وفتح وفشل العدوّ في تحقيق أحد أهدافه في هذه الحرب وهو ضرب الوحدة وإعادة الوضع إلى ما كان عليه من تشرذمٍ وانقسام بين الفلسطينيين طيلة 8 سنوات.
ويبدو أن العدوّ لم يجد هذه المرّة من يضغط عليه لتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار وتحقيق مطالب المقاومة كما كان الأمرُ في حرب نوفمبر 2012، حيث اصطدم آنذاك بضغوط نظام مرسي عليه لإيقاف العدوان وفتح المعابر وتخفيف المعاناة الانسانية للفلسطينيين. في هذه المرة الوضع يختلف جذرياً؛ فالوفد الصهيوني فاوض بكل راحة بعد أن خاض جيشه حرباً مدمرة طيلة شهر كامل، أوقع خلالها 12 ألف شهيد وجريح وأحدث دماراً هائلاً بالقطاع ثم ذهب وفدُه للضغط بهذه الخسائر والدمار على المقاومة لقبول الشروط الصهيونية وإلا استأنفت الآلة العسكرية الجهنمية تدميرها.
ومن خلال ما يُنشر في الإعلام العبري، فإن خطة العدوّ كانت منذ إعلان انسحابه البري من غزة تحت غطاء الهدنة، هي عرقلة التوصل إلى اتفاق لوقف الحرب يمنح لحماس أي مكسب سياسي، والاكتفاء بمعادلة “تهدئة مقابل تهدئة” مع عدم رفع الحصار واستمرار الأوضاع كما كانت قبل الحرب، وبالتالي إظهار حماس أمام الفلسطينيين بمظهر المنهزم الذي خاض حرباً غير متكافئة مع الجيش الصهيوني وعرّض آلاف الفلسطينيين للقتل وبيوتَهم للتهديم دون أن يحقق لهم هدفاً واحداً ولاسيما رفع الحصار وفتح المعابر وبناء ميناء تجاري، فتكون النتيجة ثورة السكان عليه. وإذا لم تقبل حماس “تهدئة ً مقابل تهدئة” وواصلت الحرب بإطلاق صواريخها كل يوم في إطار حرب استنزاف، فسيكتفي الجيشُ الصهيوني بالرد عليها بالقصف الجوي والمدفعي وإيقاع المزيد من الضحايا وتدمير المزيد من البيوت دون أن يتورط مجددا في حرب برية للحفاظ على أرواح جنوده وحرمان حماس من الاستثمار في قتل عدد منهم أو أسر أي جندي منهم.. وبمرور الوقت وتزايد خسائر الفلسطينيين البشرية والمادية، وتزايد أعداد النازحين والمشرّدين، وفقدان حماس معظم ترسانتها الصاروخية وعدم قدرتها على تجديدها بسبب وقوف الجيش المصري بالمرصاد لكل محاولات تهريب الأسلحة إليها انطلاقاً من سيناء، ستقبل حماس بإيقاف الحرب دون أن تجبر الصهاينة على فكّ الحصار أو تحقق أيّ مكسب آخر، وهو ما سيؤدي بدوره إلى ثورة سكان القطاع على حماس كما يخطط العدوّ وحلفاؤه العرب الذين يمقتون حكم الاخوان.
ويعني هذا أن العدوّ لا يريد إنهاء الحصار عن غزة وأنه عازمٌ على مواصلة خنقها إلى غاية إجبار المقاومة على الاستسلام وقبول نزع سلاحها، وبعدها ستتدفق مساعداتٌ مالية كبيرة من المانحين العرب والدوليين في إطار إعادة الاعمار، وتحقق غزة تطورا اقتصاديا ورخاءً معيشياً لسكانها.
هي خطة جهنمية بدأها العدوّ يوم الثلاثاء الماضي باستئناف القصف بالطائرات والمدفعية بعد أن أعلن إنهاء المفاوضات بذريعة إطلاق ثلاثة صواريخ من غزة على مستوطناته، ما يعني أنه يريد إجبار المقاومة على قبول معادلة “تهدئة مقابل تهدئة” وإسقاط كل مطالبها العادلة برفع الحصار وبالتالي ذهاب تضحيات سكان غزة سدى، أو الذهاب إلى حرب استنزاف تكون أداتها الطيران والمدفعية…
ومع أن الوضع يبدو في غير صالح المقاومة، في ظل تغوّل الآلة العسكرية الصهيونية وإحداثها دمارا هائلاً بالقطاع، وكذا خذلان العرب وتواطؤ بعضهم مع العدوّ الصهيوني ضدها وسكوت العالم عن جرائم الاحتلال وقبوله استمرار جريمة الحصار طيلة 8 سنوات دون أن يتدخل لإنهائها… برغم كل هذا فإن المقاومة التي صمدت بشكل أسطوري طيلة 30 يوماً وفاجأت العدوّ وألحقت بجنوده وضباطه خسائرَ فادحة و”غزت” مستوطنة ناحل عوز عبر أحد الأنفاق وأجهزت على 10 من جنوده، قادرة الآن على إظهار مفاجئات جديدة نعتقد أنها ستُربك العدوّ، وتُثخن فيه مجدداً، وقد تجبره على خوض حرب
برية جديدة يدفع فيها خسائر فادحة من جنوده في ظل تزايد دعوات سياسييه إلى اعادة احتلال غزة والقضاء على حكم حماس وإعادة القطاع إلى حكم عباس مجدداً.
وحتى إن لم ينجرّ جيش العدو إلى حرب برية، فإن حرب استنزاف بالصواريخ تدوم أشهراً أو سنوات، لن يكون بإمكان الصهاينة تحمّل تبعاتها الاقتصادية بعد أن بدأت المقاومة استهداف منشآته الاقتصادية الإستراتيجية وضربت منشأة الغاز ببحر غزة الأربعاء الماضي، فضلاً عن استمرار هروب أغلب سكان مستوطنات غلاف غزة إلى مناطق أخرى وهجْر بيوتهم وعودة سكان المدن الداخلية إلى حياة الملاجئ والرعب.. وسيتحوّل ذلك بمرور الوقت إلى شكل من أشكال “الحصار” على مئات الآلاف من المستوطنين، فهل بإمكان العدو التعايش مع هذا الوضع أشهراً أو سنوات؟
غزة قد تدفع في حرب الاستنزاف ثمناً باهظاً ويسوء حالُ سكانها أكثر وتشتدّ عليهم المحن، والمقاومة قد تدفع بدورها ثمنا فادحاً في رجالها وسلاحها وعائلاتها المستهدَفة، هذا كله صحيح، ولكن الصحيح أيضاً أن العدو لن يكون في راحة من أمره وهو يرى سياحتَه تُشلّ وشركاتِ الطيران الأجنبية تعود إلى تعليق رحلاتها الجوية إلى الكيان الصهيوني بعد استهداف مطار بن غوريون مجدداً بالصواريخ، وخسائرَه الاقتصادية ترتفع ومستوطني غلاف غزة مشرّدون مدة طويلة والحياة العامة غير طبيعية و”شعبه” لا يشعر بالأمن في مختلف المدن، وشعوب العالم تزداد كرهاً له على تماديه في جرائمه ضدّ الأطفال والنساء… وسيضطرّ في النهاية إلى القبول باتفاق يلبي شروط المقاومة ويرفع الحصار عن الفلسطينيين إلى الأبد. الآن بدأت معركة الكرامة في غزة والنصرُ فيها يتحقق بالصمود والثبات والصبر والقبول بتقديم المزيد من التضحيات.