الطائرات والدبابات الصهيونية، طوال شهر كامل، ليلاً نهاراً، البيوت والمدارس والمساجد والمستشفيات عمداً ودون هوادة قصد قتل أكبر عدد ممكن من المدنيين وإلحاق أضرار شديدة بالمباني، وصرّح أكثر من مسؤول صهيوني بأن قادة حماس سيُذهلون حينما تنتهي الحرب ويخرجون من مخابئهم ويرون حجم الدمار الهائل الذي لحق بقطاع غزة، ما يعني أنهم تعمّدوا تدمير آلاف البيوت ومسحَ أحياء بأكملها في القطاع كحيي الشجاعية وخزاعة من الخريطة دون ارتباطها بأي أهداف عسكرية للمقاومة كما كان جيش العدو يزعم، بل للتأثير في معنويات قادة حماس ودفعهم إلى الإحجام عن إطلاق الصواريخ على المستعمَرات الصهيونية المشيّدة في فلسطين المحتلة سنوات عديدة حتى لا يعيد جيشُ العدوّ الكرّة.
وفضلاً عن ذلك، كشفت إعترافات الجنود الصهاينة لصحيفة “أندبندنت” البريطانية أنهم تعمّدوا قتل المدنيين في غزة ولم يصيبوهم عرضاً خلال المعارك مع المقاومة، إذ لم تكن هناك أصلاً معارك والتحامات مباشرة بين الطرفين، بل كان المقاومون يخرجون من الأنفاق خلف خطوط جيش الاحتلال ويهاجمون جنوده بسرعة ثم يختفون بسرعة مخلفين في كل مرة عدداً معتبراً من القتلى والجرحى في صفوفهم، فيجنّ جنونُ العدو ولا يجد أمامه سوى الأطفال والنساء والمدنيين عموماً للانتقام منهم بوحشية لإرواء غليله.
وبهذه الطريقة كانت الخسائر البشرية لجيش الاحتلال تتزايد يومياً وكانت خسائر أهل غزة من المدنيين تتزايد بدورها حتى بلغت قرابة ألفيْ شهيد و10 آلاف جريح في ظرف شهر من العدوان. لكن المقاومة حققت نصراً أخلاقياً كبيراً على العدوّ الصهيوني وفضحت جرائمه أمام الشعوب الحرة في العالم وأكدت أنه مجرد كيانٌ إرهابي نازي لا يتورع عن استعمال أحدث الأسلحة من طائرات ودبابات وصواريخ وقنابل مدمِّرة لالحاق أكبر ضرر بالمدنيين حينما يعجز عن مقارعة المسلحين وجهاً لوجه.
ولو كان العالمُ منصفاً ويطبق قوانينه على الجميع لقام بملاحقة القادة الصهاينة كمجرمي حرب بتهم ثقيلة جدا وهي ارتكاب جرائم حرب وإبادة وجرائم ضد الانسانية ولجرّهم إلى محكمة العدل الدولية وطبق عليهم العقوبات التي يستحقون جزاء جرائمهم، ولكنه عوّدنا على الكيل بمكيالين حينما يتعلق الأمر بالمسلمين في العالم؛ إذ تصبح دماؤهم مستباحة ولا يكترث بارتكاب المذابح الفظيعة بحقّهم، وإن تظاهر بين الفينة والأخرى بالتنديد بها، ولا يلاحق مرتكبيها الذين يسلمون من العقاب، في حين لا يتردد في ملاحقة من “يُشتبه” في ارتكابه جرائم مماثلة إذا كان مسلماًُ ويسلط عليه سيف المتابعة الدولية ويسجنه داخل بلده ويحرم عليه زيارة العالم خوفاً من الاعتقال كما حدث للرئيس السوداني عمر البشير.
لقد ظهر المجتمعُ الدولي في حرب غزة الثالثة منحازاً بشكل سافر لم يسبق له مثيلٌ إلى صفّ المعتدي الصهيوني وزعم أن عدوانه على غزة “دفاعٌ عن النفس” وردٌٌّ على الصواريخ التي تطلقها حماس على المدنيين الصهاينة، وهي مغالطة مفضوحة، لأن الصهاينة هم الذين بدأوا العدوان انتقاماً من حماس التي حمّلوها مسؤولية خطف ثلاثة مستوطنين في الضفة الغربية وقتلهم خلال منتصف شهر جوان الماضي، وحماس أطلقت الصواريخ ردا على غاراتهم المتواصلة التي أوقعت عدة شهداء، ولم تبدأ هي الحرب.
أما مجلس الأمن الدولي فقد أبدى عجزاً فاضحاً عن إيقاف العدوان الصهيوني ولم ينعقد إلا بعد مضيّ وقت طويل على وقوعه، وكانت جلساته تنتهي في كل مرة دون التوصل إلى قرار بإيقاف الحرب وإلزام المعتدي بالانسحاب من غزة دون قيد أو شرط، وكذا إلزامه برفع الحصار الجائر المضروب على غزة منذ 8 سنوات كاملة باعتباره منافياً لكل القوانين والمعايير والأخلاق، وبقي الوضعُ يراوح مكانه إلى أن قرّر الجيشُ الصهيوني من جانب واحد إنهاء عدوانه والانسحاب من غزة، وبذلك يثبت مجلس الأمن الدولي مرة أخرى أنه مجرّد أداة في يد الصهاينة والأمريكيين يخدم سياساتهم وأهدافهم فحسب.
وكما عرّت حرب غزة نفاق المجتع الدولي والأمم المتحدة، فقد عرّت أيضاً الدول العربية مجدداً وأثبتت أنها وصلت إلى مرحلة من الضعف والهوان لم يسبق لها مثيلٌ في تاريخها كله إلى درجة أن بعضها لم يجرؤ حتى على إصدار بيانات التنديد والشجب التي تعوّد على إصدارها في العقود الماضية لذرّ الرماد في العيون، والتزم هذه المرة صمتاً مطبقاً وكأن الحرب تقع في كوكب آخر وضد كائنات أخرى لا علاقة لها بالأشقاء الفلسطينيين. وبرغم طول أمد الحرب ووقوع مجازر يومية مهولة إلا أن هذه الدول تعاملت معها ببرود كبير وبقي إعلامها يواصل برامجه اليومية من مسلسلات وأغاني بشكل يدعو إلى الاستغراب في حين كانت مختلف المدن الغربية تعجّ بالمظاهرات الشعبية الساخطة على هذه المجازر وتندد بالوحشية الصهيونية عالياً، كما كانت دولٌ أمريكية لاتينية تسحب سفراءها من الكيان الصهيوني احتجاجاً على المحرقة ضد الأطفال والنساء.
أما الأدهى من الصمت، فهو التواطؤ المفضوح لأربع دول عربية مع العدوان ونصرة العدو الصهيوني على حماس، وقد فضحها الرئيسُ الصهيوني السابق بيريز منذ نحو 15 يوماً وقال إن كيانه لم يعد يعيش في محيط عربي معادي بل في محيط يدعمه في حربه على حماس، أما نتنياهو ففضح هذه الدول في مؤتمر صحفي على المباشر ووصف علاقاته كيانه معها بـ“الخاصة” وأنها بلغت خلال الحرب الحالية درجة “التحالف الإستراتيجي” ضد حماس، وهو ما دعا وزيرُ الخارجية ليبرمان إلى تطويره بعد نهاية الحرب في اتجاه تشديد الحصار على غزة ونزع سلاح حماس.
هذا المعطى الجديد يؤكد أن المقاومة الفلسطينية ستمرّ حتماً بأيام عصيبة؛ فقد تنتهي الحرب وفق صيغةٍ ما، ولكن الحصار لن ينتهي فيما يبدو حتى وإن وعد الصهاينة برفعه مقابل الهدنة، إذ لا أحدَ يضمن تنفيذ الصهاينة لوعودهم أو يضغط عليهم لتنفيذها، ولا شيىء يضمن فتح مصر لمعبر رفح بشكل دائم بعد الحرب، والأرجح أن تفتحه أسابيع عديدة ثم تفبرك مجدداً ذرائع ما ضد حماس وتوجِّه لها تهما مختلَقة بشأن الأوضاع المتدهورة في سيناء وتتذرع بها لغلق المعبر مجدداً.
لقد حققت المقاومة الكثيرَ في هذه الحرب وفاجأت العدوّ وأثخنت في جنوده، وصمدت أمام آلته العسكرية الجهنمية بشكل أسطوري باعتراف العدو نفسه، ونسفت مخططاته وكسرت عجرفته، ولكن المشكلة أن المقاومة الفلسطينية لا تستند إلى أيّ حليف على غرار نظيرتها في جنوب لبنان التي تسند ظهرها إلى سوريا وإيران. المقاومة الفلسطينية دون حليف في المنطقة، والدولُ السنية التي كان من المفروض أن تدعمها لقطع الطريق على إيران، هي التي تقف ضدها وتتآمر عليها مع العدوّ لقبرها وإنهائها.
إنما على الفلسطينيين أن لا ييأسوا؛ فقد يأتيهم الله بالنصر من حيث لم يحتسبوا وتكون هذه الحرب سبباً في استيقاظ الشعوب وسقوط رؤوس وأنظمة كبيرة في المنطقة العربية وتغيير الأوضاع رأساً على عقب.