لقد قلتُ منذ اليوم الأوّل أن مشروع العدوان على غزة (مشروع مصري خليجي) بتنفيذ إسرائيلي .. وقد تبيّنت تفاصيل ذلك فيما بعد، واليوم سأوجز المشهد في ما يلي :
لقد كنا منذ اليوم الأول ننادي بوجوب أن يقوم الشارع العربي وقواه الفاعلة بدعم غزة والمقاومة، بعد أن سقطت كل الأقنعة الرسمية العربية، كما سقطت أقنعة إيران ووكلائها، غير أنّ هذا لم يحدث.. وقد أحست المقاومة بأنّ العرب خذلوها أنظمة وشعوباً .. وكان الإيرانيون يريدون أن تصل المقاومة إلى هذا الشعور، ليعيدوها إلى أحضانهم .. لذلك انتظرت إيران وانتظر حزب الله أياماً من القصف والتدمير الإسرائيلي لغزة .. وحين تبيّن لهم أنّ المقاومة قد تركت وحيدة، بدأ الإيرانيون ووكلاؤهم يتحركون ليقولوا للمقاومة (ليس لك غيرنا) .. وخطب حسن نصر الله زعيم (حالش)، وتحرك خطاب طهران..و…وبرأيي فإنّ المقاومة قد وجدت نفسها مضطرة للاقتراب من (طهران) وهذا ما حدث فعلاً .. وهو أكبر ما خسرته الشعوب السنية في هذا العدوان.
وبرأيي فإنّ المقاومة في أيامها الأولى كانت تراهن على موقف حقيقي للشعوب، لذلك قامت بضرب الإمارات في مقتل في قضية تجسسها على المقاومة من خلال (الهلال الأحمر).. غير أنّ المقاومة عادت اليوم لتشكر الإمارات على دعمها ومساعدتها.. كما أرى أنّها -أي المقاومة- ستعود في الأخيرة إلى (المبادرة المصرية) مرغمة.
لا يهمني هنا ما سيقوله المتفائلون ولا الذين لا يحسنون إجراءات العمليات الحسابية وقراءة المشاهد، فبالنسبة لي المعركة انتهت .. والمشروع المصري قد بلغ مراحله الأخيرة في تصفية (غزة السريّة التي تحت الأرض)، بما فيها من خنادق وأنفاق ومصانع عسكرية وملاجئ للقيادات، وممرات تهريب و…وغدا لنا كلام.
إنّني أؤكد على أنّ نتائج هذا العدوان ستكون كارثية على القضية كلها.. وعلى مستقبل أي مقاومة فيها.
والاتفاق منعقد الآن بين الأنظمة العربية (مصر والسعودية والإمارات والأردن وغيرها)، وبين إسرائيل والغرب على (ما بعد إنهاء ظاهرة غزة) .. وإيران طرف في هذا الاتفاق، وقد أخذت الموافقة على طلباتها وعلى حصتها من الكعكة.
السيسي أصرّ على أن يكون ملف غزة في يده، والمقاومة حاولت تجاوز السيسي..وقف العالم كله في صف واحد يقول (المبادرة الوحيدة هي المبادرة المصرية)، إيران انضمت خلال الساعات الأخيرة إلى مباركي المبادرة المصرية .. وانتهى الأمر.
والذين يشككون في هذا الأمر ربما لم يبلغهم خبر الاجتماع الذي انعقد خلال الساعات القليلة الماضية في مقر السفارة الإيرانية في بيروت برئاسة حسين أمير عبد اللهيان مساعد وزير الخارجية الإيراني الذي زار لبنان قبل عطلة عيد الفطر على رأس وفد أمني عسكري، وحضر اللقاء أمين عام حركة الجهاد الإسلامي رمضان شلح وزياد النخالة، ومن حماس أسامة حمدان ومحمد نصر ومحمد بركة، كما حضر الحاج توفيق صفا ممثلاً لحزب الله اللبناني، فضلاً عن السفير الإيراني غضنفر أباد، ليلتحق بعد ذلك السفير الروسي الكسندر زاسبكن والسوري علي عبد الكريم..
لقد بيعت المقاومة وبيعت غزة وبيعت دماؤها، بتآمر عربي رسمي تقوده مصر وتدعمه السعودية والإمارات .. وبغدر إيراني سوري .. وبتخاذل شعبي عربي وإسلامي…
هل كنا ننتظر أن تحدث معجزة مثلاً فيغلبُ الشارع العربي بهوانه، ترسانة السلاح والدبلوماسية العالمية التي يشترك فيها (الغرب والأنظمة العربية وإيران)؟.
ولأنّنا أمة تحسن تحويل هزائمها إلى نصر، فقط برفع الزغاريد والضحك على نفسها.. من زمن نكسات 67 و73 إلى اليوم ، فهناك من سيعتبر هذه النهاية المأساوية انتصاراً، فقط بالنظر إلى جراح الغزاويين الذين خذلناهم وشاركنا في جريمة إبادتهم.. تماماً كما اعتبروا خسارة فريق كرة القدم الجزائري أمام الفريق الألماني انتصاراً.
لقد انتصرت غزة بجراحها وصبرها .. وانتصر السيسي والأنظمة العربية بخيانتهم وإصرارهم على أهدافهم.. وانهزم الشارع العربي والضمير العربي..
المشكلة أنّ الذين يقومون بتصفية المقاومة الفلسطينية الشعبية، يدفعون بالأمور بجهلهم ودون قصد منهم إلى ظهور مقاومات كتلك التي في سوريا والعراق وليبيا اليوم، لا تعرف التراجع ولا الهدنة ولا تعترف بالحدود ولا تقبل بالتحاور مع الأنظمة العربية.. وإذا تركت الأمة مكانها تجاه تحرير الأقصى، فإنّ غيرها سيملأه ..”وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم”.
ربما لا تفهم الأنظمة، ولا إيران، ولا السيسي، ولا الغرب، ولا إسرائيل، معنى أن يرى الناسُ الإخوان المسلمين في مصر يدفعون ثمن سلميتهم هوانا وإذلالا، ولا معنى أن تدفع المقاومة الفلسطينية ثمن انضباطها بقواعد اللعبة في معاركها .. بينما تكتسح الدولة الإسلامية في العراق وفي سوريا وفي ليبيا الأرض وتسيطر كل يوم على مناطق جديدة رغم تمردها على الجميع ..
كأنّ المجتمع الدولي والأنظمة العربية يوجّهون شعوب المنطقة، كما وجهوا عشائر العراق وسوريا إلى حقيقة كبيرة وخطيرة وهي :
لا مكان في العالم وفي هذه المنطقة إلا للقوة بدون رحمة. فمن الذي يدفع أبناء هذه المنطقة إلى عقيدة العنف والتطرف؟.