
يعد سؤال “الديني” من الأسئلة الكبرى، التي شغلت مساحة من التفكير الإنساني عبر التاريخ، ولازالت، خاصة عندما يتعلق الأمر بالإسلام، هذا الدين الذي أصبح كوني الدراسة. فالكثير من أقطاب الغرب بما فيهم من مستشرقين، وباحثين، ورجال دين، تناولوا هذا الدين بوضعه تحت مجهر السؤال، وشرعوا في دراساتهم التي تراوحت بين الرفض والقبول، وكثيرا ما أدت إلى التحول أيضا.
والتحول الديني يعتبر مسألة معقدة، تتداخل فيها الأسباب، وتختلف فيها الأبعاد، وتنصب كلها في قالب فلسفي، هو أصل السؤال، وأصل الإجابة التي ستتجسد أمامنا في رحلة الدبلوماسي الألماني مراد ولفريد هوفمان في هذا الفصل، الذي سنحاول فيه الوقوف على أهم المحطات في حياته لنستشف منها الأسباب التي ساهمت على تحوله إلى الإسلام بالإضافة إلى الدلالات الفلسفية التي رافقت ذلك التحول.
المبحث الأول: مراد هوفمان ” الشخص ومؤلفاته”:
في هذا المبحث، سنتعرف على مراد هوفمان بمرورنا على محطات أساسية في حياته، والتي كانت ذات أهمية كبرى في تكوينه الفكري والديني –على وجه الخصوص- ثم نذكر أهم مؤلفاته، التي كتبها بعد اعتناقه للدين الإسلامي.
أولا-مراد هوفمان (الشخص):
هو” مرادويلفريدهوفمان- Mourad WillfriedHofman ولد في 06 يوليو1931 لعائلة كاثوليكية في مدينة أشافينبيرغ –Aschaffenburg بألمانيا. وكان والده مدرسا للرياضيات”[1].
وقد عاش هوفمان الحرب الجوية الإستراتيجية إبان الحرب العالمية الثانية، وكانت فترة مليئة بالأحداث، ورغم كل ما مر عليه من حروب، إلا أنه كان مؤمنا، إذ يقول: “لقد صادفت في حياتي كثيرا من الأحداث المذهلة التي يمكن للمرء أن يلصق عليها بطاقة قسمة، والتي تجعلني وغيري من المسلمين نشعر بالسكينةوالطمأنينة، لأن الله القادر العليم يرعانا في السراء والضراء على السواء”[2].
لقد عاش هوفمان في مدينته أشافينبيرغ، التي كانت في ذلك الوقت منطقة صناعية ونقطة التقاء للمواصلات، وربما ذلك هو السبب في تعرضها للهجوم، إذ أنها “ابتداء من سبتمبر عام 1940، راحت تتعرض لغارات جوية منتظمة تقريبا”[3]. وفي تلك الفترة، لم يكن يذهب إلى المدرسة إلا ومعه مؤونة للطوارئ، والقناع الواقي من الغازات، وحدثنا هوفمان عن تلك الفترة: “… وفي أحد الأيام، تعرضت مدرستي للقصف، وأصيب المخبأ الخاص بتلاميذ فصلي. وكنت قد قررت بالفعل، عند سماع أولى صفارات الإنذار، أن أنصرف !!ترى ما الذي كان يمكن أن يحدث، لوأنني كنت في المدرسة في تلك الأثناء؟ !ونظرا لعدم وجود مدرسة أذهب إليها، عملت على أن يكون بقائي في المنزل مفيدا، فرحت أستمع باستمرار تقريبا إلى إذاعة فيجارو… صرت أعرف على وجه الدقة ما إذا كان ضروريا حقا أن أذهب إلى المخبأ أم لا.
وفي يوم 21 من نوفمبر 1944، فاجأتني صفارة الإنذار، عندما قام سرب مكون من 150 إلى 200 قاذفة أمريكية بدك المدينة بما يزيد عن ألف قنبلة متفجرة، أتبعتها بقنابل حارقة. وترتب على ذلك تدمير المدينة وتحويلها إلى حطام بنسبة 64%… ودكت المنطقة الواقعة على بعد 12 مترا فقط خلف منزلنا بقنابل متتابعة الانفجار … ترى ماذا كان يمكن أن يحدث، لوأن قاذف القنابل ضغط على الزر مبكرا بمقدار عشر ثانية؟ !”[4]، وكثير من الأسئلة كان يطرحها على نفسه، مستفسرا، “ماذا كان ليحدث؟ !” في استغراب،وكأن القدر يقف معه مريدا به الوصول إلى ما يخفى عليه.
أما فيما يخص حياته الدراسية، فقد أكمل هوفمان دراساته وبلغ درجات عالية، “ففي عام 1957 أنهى دراسته القانون الألماني بحصوله على الدكتوراه في القانون من جامعة ميونيخ. وفي عام 1960 حصل على شهادة الماجستير في القانون الأمريكي من جامعة هارفرد. وفي الفترة ما بين عامي 1961و1994 عمل في وزارة الخارجية الألمانية، وتخصص في مسائل الدفاع النووي. وكان آخر مناصبه مدير استعلامات حلف الناتوفي بروكسل (1983-1987)، وسفير ألمانيا في الجزائر (1987-1990)، ثم سفير ألمانيا في المغرب (1990-1994)”[5].
“لم يكن هوفمان متدينا، بل كان مشغولا جدا بعمله كدبلوماسي. بالإضافة إلى ذلك كانت لديه اهتمامات بفن الباليه حيث عمل من عام 1954 حتى عام 1980 كناقد متخصص في الباليه في الصحف الألمانية والبريطانية والأمريكية. وألقى محاضرات في مادتي تاريخ وعلم جمال الباليه بمعهد كولونيا للباليه بين عامي 1971 و1973”[6].
وقد كان كذلك خبيرا بالخمور، مولعا بها قبل إسلامه، إذ قال في ذلك “… حتى إنني كنت أحدد أنواع الأنبذة الحمراء المدهشة بمجرد تذوقها بطرف لساني. وكان التمييز بين أنواع الخمور الذكورية والأنثوية أيسر منه بين الأنواع المختلفة ذات كل مجموعة منهما، حيث يتطلب الأمر بالنسبة لكل حالة تحديد الزيت الأثيري الخاص عن طريق التذوق. ولقد أتاحت لي الدبلوماسية، وبصفة خاصة حفلات العشاء الرسمية في ختام مؤتمرات وزراء حلف شمالي الأطلنطي، فرصة هائلة لاكتساب هذه الخبرة”[7].
ويستمر هوفمان في رواية قصته مع القدر، حيث تحدث عن حادث سير مريع تعرض له عام 1951، حين كان متجها من ولاية نيويورك الشمالية إلى فلوريدا ثم جورجيا، وقد أصيب إثر ذلك الحادث بجروح مميتة، إذ يقول: “… وعندما فحصني الأطباء في المستشفى وجدوا كسرا في فكي العلوي، وقطعا في شفتي السفلى وكسر 19 من أسناني، وقد انخلعت ذراعي اليمنى من مكانها، وحدث ثقبٌ عميق في ركبتي اليمنى، ولكني لم أصب بارتجاج في مخي أو بصدمة نفسية. كانت السيارتان قد تصادمتا بمقدمتيهما بسرعة إجمالية تبلغ95 ميلا في الساعة تقريبا. وكانت فرصتي للنجاة من هذا الحادث تعادل تلك التي كان يمكن أن أحظى بها فيما لوأني قفزت من الطابق الخامس من مبنى مرتفع… وأخذ الطبيب لبعض الوقت يحيل بصره على التوالي بين صورتي في جواز سفري وتقاطيع وجهي الممزقة، ثم همم مترددا بأنه يمكنني أن أجري جراحة تجميل بعد بضع سنوات. وأضاف بتحفظ وهويحقنني بجرعة مورفين في أول ليلة لي بالمستشفى: يا عزيزي إن المرء لا ينجوفي مثل هذه الحوادث ! لعل الله قد ادخر لك شيئا في المستقبل”[8]. وفيما بعد أدرك هوفمان الإجابة عن جميع أسئلته السابقة، وتلاشت حيرته إزاء ما حدث له، فأدرك أن القدر كان ينقذه في كل مرة حتى يبلغ الإسلام، إذ يضيف بعد حديثه عن الحادث الذي تعرض إليه، قائلا: “وبعد 29 عاما، أي في 25 سبتمبر عام 1980، استطعت أن أدرك معنى هذا”[9].
ثانيا- أهم مؤلفاته:
سنتعرض في هذا الموضع لبعض مؤلفات مراد هوفمان، التي كان لها الأثر الأقوى في إيصال رسالته ورؤيته للدين الإسلامي، ليس على الصعيد العربي الإسلامي فقط، وإنما على الصعيد العالمي، إذ أدت تلك المؤلفات لما فيها من براعة في الحجة والمضمون إلى اعتناق العديد من الغربيين لدين الإسلام. وفيما يلي عرض لسبعة مؤلفات من أصل ثلاثة عشر مؤلفا.
1-يوميات ألماني مسلم:
ألفه هوفمان، وترجمه عباس رشدي العماري، ويعلق أحمد أسد على صفحات كتاب هوفمان، فيرى بأنها “لا تعدوأن تكون حوارا مع نفسه فرضته طبيعته الألمانية الميالة إلى الاستغراق بعمق في دراسة القضايا الأخلاقية والسلوكية الجمالية”[10]. إذ تحدث هوفمان في هذا الكتاب عن كثير من التفاصيل المتعلقة بوقائع، كانت بالنسبة له دروبا ورؤى مفتوحة على اعتناقه للإسلام، ويقول المؤلف: “فمن المؤكد أنها ليست تسجيلا لاعترافات نفسية- درامية لشخص حديث الإيمان. كما أنها ليست محاولة لتمحيص ما لا يمكن تحليله: أي العناصر العاطفية والمعرفية المتكاملة تماما والمحفزة على تغيير الديانة. كما أن هذه اليوميات ليست رصدا زمنيا لسيرة ذاتية في تلك اللحظات التي تعكس فيها بصدق أحداثا محددة … إن هذا الكتاب أقرب ما يكون إلى تصوير مراحل محددة لتلك العملية العقلية المفضية إلى اعتناق الإسلام، والتي غذاها عدد محدود من التجارب الهامة، وهي العملية التي قامت فيها ميولي الشخصية العميقة إزاء مقومات الإسلام الجمالية والثقافية، أي حضارته وفلسفته، بدور هام”[11].
2-الإسلام كبديل:
ألفه هوفمان، وقد ترجمه إلى العربية غريب محمد غريب، ويعتبر هذا الكتاب مرافعة لصالح الإسلام، إذ تعرض إلى جميع المواضيع الحساسة المتعلقة بأسلوب ونظام الحياة الإسلامية، من أجل تبديد صورة الإسلام-العدوكما هي في الغرب الأوروبي-، مريدا بذلك الإشارة إلى حقيقة الإسلام وصورته التي أراد أن يكون عليها. ويتحدث هوفمان عن مؤلفه قائلا: لقد حاولت في كتابي المذكور، وبمنهج عقلاني، دحض جميع التحيزات والأفكار الخاطئة واللامعقولة، المسبقة والضاربة بجذورها في أعماق الوجدان الألماني حيال الإسلام، خاصة وأنني كنت أشعر بضراوتها وتبادرها للذهن الألماني قبل أي دراسة أو معرفة بالأمر”[12].
3-الطريق إلى مكة:
وقد ألفه هوفمان،وترجم إلى العربية، لكن لم يذكر اسم المترجم. ويسرد فيه صاحبه حقيقة الإيمان كما يعيشها هو، ويتعايش معها، نظرا لكون الأديان الكبرى –كالإسلام- لا تطبق كما ينبغي، كون ما تأتي به من متطلبات، ومبادئ فكرية وأخلاقية، إنما هي ذات طبيعة متعالية. ومن هنا، ذهب هوفمان إلى تحديد الهدف من المؤلف، بقوله: “إنني أتمنى أن يساعد كتابي هذا على إدراك القوة الدافعة التي يستمدها المسلم المؤمن من دينه، وكيف تستطيع أن تسمو به، وأن يساعد كذلك على تبين الأفق الذي يمكن أن يصل إليه العالم الإسلامي عند تمسكه بهذا الدين في حياته اليومية”[13].
4-في تطور الشريعة الإسلامية:
ألفه هوفمان، وترجمه يوسف مزاحم، وفراس قهوجي إلى العربية. وقد أراد به التطرق إلى الشريعة الإسلامية، والبحث في إمكانية تطورها. و”تبحث هذه المقالة في موقف الشريعة الإسلامية تجاه العديد من المواضيع الحساسة، مثل وضع النساء والأقليات في الإسلام، والإسلام والديمقراطية والحدود، ويكشف المؤلف عن المواقف الإسلامية الراهنة من الشريعة، ويحدد ثلاثة اتجاهات: التقليدية (المحافظة) والعلمانيةوالإصلاحية. كما تكشف الورقة مواقع العلماء المحافظين، والمجتهدين المصلحين، من المواضع المذكورة.وتصل إلى أن موقف الإصلاحيين هو الأكثر معقولية، والأقرب إلى القرآن والسنة، حيث إن الورقة تدافع عن الاجتهاد الجديد، فإنها تقدم، وبشكل فعال جدارة وموثوقية التشريع الإصلاحي”[14].
5-خواء الذات والأدمغة المستعمرة
ألفه هوفمان، وترجمه كل من عادل المعلم ونشأت جعفر، و”يحتوي هذا الكتاب على ثلاثة أجزاء تشرح بالتفصيل –إلى حد ما- لماذا فشلت الشيوعية في العالم، ولماذا حلت ما بعد الحداثة في الغرب، وكيف يفعل به الغرق في الملذات الحسية، يلي ذلك عرض لماذا يكون الإسلام هو الحل في المأزق الذي أدى إلى الغرق –ليس غرق الغرب وحده، بل إلى حد ما العالم العربي والإسلامي-“[15].
6-الإسلام في الألفية الثالثة ديانة في صعود:
ألفه هوفمان، عربه عادل المعلم، ويس إبراهيم،ويتحدث فيه المؤلف عن إمكانية بلوغ الإسلام مرتبة الانتشار والقبول، وبالتالي العالمية، ويطرح فيه هوفمان جملة من الأسئلة التي حاول معالجتها، ومن بينها: “هل سيقوم العالم الإسلامي بتحديث نفسه؟ أم سيمتثل هذا العالم لأسلوب الحياة الأمريكي؟ … هل سيستمر انتشار الإسلام في الغرب كما حدث في الثلث الأخير من القرن العشرين؟ … ما النتائج المرتقبة في حالة نجاح العالم الإسلامي في أن ينهض من جديد؟ وهل يمكن أن يصبح هذا الدين –وهو نظري عقائدي- بالفعل دينا يسود العالم؟”[16].
7-كتاب مستقبل الإسلام في الغرب والشرق:
ألفه مراد هوفمان مناصفة مع الدكتور عبد الجيد الشرفي، ترجمه إبراهيم يحي الشهابي والكتاب عبارة عن حوارية حول المستقبل الذي ينتظر الإسلام في العالم، وما سوف يكون عليه في الغد القريب والبعيد، يتحدث فيه المؤلف في البداية عن التطورات الكبرى في المستقبل[17]التي أظهرت تراجع التدين بين المسيحين في العالم، ومصالحة الكنائس مع العلمانية إلى جانب بروز الإسلام كدين عالمي بسبب وسائل الاتصال، وأثر الفلاسفة والمعاصرين ونتائج بحوثهم في تغيير المفاهيم، كما بحث هوفمان في مسألة الإرهاب وخطورته، وأكد أن مستقبل الإسلام في الشرق سيتأثر بجملة من الأمور كالتربية العامة والإسلامية وحقوق الإنسان، وانتقد الممارسات المغلوطة للمسلمين اليوم ووصف علاجا لها، وأشارا لي التحديات الكبرى التي تواجه مستقبل الإسلام في الغرب غير الإسلامي.
المبحث الثاني: في التحول الديني وأسبابه.
في هذا المبحث سنعرض لتحول هوفمان نحوالدين الإسلامي، ولم يكن هذا التحول سوى نتيجة لكثير من التأمل في هذا الدين، ليس نظريا فحسب، بل وعمليا معاشا مستمدا من تجارب واقعية؛ وقبل أن نتعرف على أسباب ذلك التحول والتي تفرقت في عدة جوانب مختلفة، وجب علينا أن نقف على الجانب المفاهيمي لـ “التحول الديني”.
أولا- مفهوم التحول الديني:
سنحاول تفكيك المصطلح المركب: “التحول الديني”، لضبطه ضبطا دقيقا.
فأما بالنسبة لمصطلح “التحول – Mutation، فقد جاء في المعجم الفلسفي لصليبا بأنه “تغير الأشخاص، أوالأشياء. وهوقسمان: تحول في الجوهر، وتحول في الأعراض. فالتحول في الجوهر حدوث صورة جوهرية تعقب الصورة الجوهرية القديمة كانقلاب الحي بعد الموت إلى جثة هامدة … والتحول في الأعراض تغير في الكم (كزيادة أبعاد الجسم النامي)، أوفي الكيف (كتسخين الماء)، أوفي الفعل (كانتقال الشخص من موضع إلى آخر)”[18].
وجاء في معجم أندريه لالاند بأن المصطلح Mutationيعرب إلى المصطلح طفرة، ومن بين معاني هذه الكلمة، أنها تشير إلى “تغير، وبمعنى خاص، تبدل في التنظيم الاجتماعي”[19]. وكذلك تطلق على المفهوم التالي: “عندما نتصور سلسلة من جنس أحفوري واحد، يطلق اسم متغيرات على الفوارق المورفولوجية التي تمثلها العينات المأخوذة من طبقة واحدة، ويطلق اسم طفرات على الفوارق، تلك التي تمثلها العينات المأخوذة من طبقات متعاقبة”[20].
غير أن كلمة “التحول” حينما تقترن بالدين، كثيرا ما يصطلح عليها “بالاعتناق–Conversion”، وتشير إلى “انقلاب جذري في المسلك وفي الاستعداد الأخلاقي للسمة أوالطبع. يقال بوجه خاص، ولكن حصرا، على الانتماء إلى دين ما”[21].
أما بالنسبة لمفهوم “الدين–Religion“، ففي اللغة نقول: دان بـ: يدين، دن، دينا وديانة: فهودين، والمفعول به مدين به… فدان بالإسلام: اتخذه دينا تدين بالإسلام، وتشدد في أمر دينه وعقيدته عالم متدين، واقترض فصار مدينا تدين مبلغا لم يسدده”[22].
ويقال: “يوم الدين؛ يوم الجزاء، وفي المثل: كما تدين تدان، أي كما تجازي تجازى، أي تجازى بفعلك وبحسب ما عملت، وقيل كما تفعل يفعل بك … ومنه الديان في صفة الله عز وجل … والدين: الحساب؛ ومنه قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 03]، وقيل معناه مالك يوم الجزاء. وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾[الروم: 30]، أي ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوى. والدين: الطاعة. وقد دنته ودنت لهأي أطعته”[23].
يطلق أيضا على “العادة”[24]،وكذلك يطلق على كل من المعاني التالية: “الحال، والسيرة، والسياسة، والرأيوالحكم، والطاعة والجزاء، ومنه مالك يوم الدين، وكما تدين تدان”[25].
أما في الاصطلاح، فهناك معان عديدة. إذ يطلق الدين عند الفلاسفة القدماء على “وضع إلهي يسوق ذوي العقول إلى الخير. والفرق بين الدين والملة والمذهب، أن الشريعة من حيث أنها مطاعة تسمى دينا، ومن حيث أنها جامعة تسمى ملة، ومن حيث أنها يرجع إليها تسمى مذهبا. وقيل: الفرق بين الدين، والملة، والمذهب، أن الدين منسوب إلى الله تعالى، والملة منسوبة إلى الرسول، والمذهب منسوب إلى المجتهد”[26]. بينما يعبر به في الفلسفة الحديثة على عدة معان، من بينها أنه “مؤسسة اجتماعية تضم أفرادا يتحلون بالصفات الآتية:
أ-قبولهم بعض الأحكام المشتركة، وقيامهم ببعض الشعائر.
ب- إيمانهم بقيم مطلقة، وحرصهم على توكيد هذا الإيمان وحفظه.
جـ-اعتقادهم أن الإنسان متصل بقوة روحية أعلى منه، مفارقة لهذا العالم أوسارية فيه، كثيرة أوموحدة”[27].
كما جاء بأن الدين يشير إلى “نسق فردي لمشاعر واعتقادات وأفعال مألوفة، موضوعها الله “الدين هوتحديدا المطالبة بوجهة نظر الشعور والإيمان، إلى جانب وجهة نظر العلم”[28].
وتشمل كلمة الدين–على وجه العموم- جميع أديان أهل الأرض، وجاء بأنها على نوعين من حيث المصدر: “أديان إلهية سماوية تتلقى الوحي من الله بواسطة رسله، وأديان وضعية أرضية تقوم على أفكار الأفراد وميولهم”[29].
ويعرف “التحول الديني–Religion Conversion” بأنه “تبديل مجموعة من العقائد والشعائر الدينية بأخرى… وبصورة عامة، إن مصطلح التحول هومصطلح شامل للتغير الديني، ويتضمن تحولا عنيفا من حالة سابقة”[30]، وإن كان الأمر كذلك فمن الواضح أن هذا التحول ليس بسيطا، بل هوتغير عميق. فإن نتحدث عن التحول عند هوفمان –مثلا- معناه بأننا نقوم بوصف حركة تغيير جذري، إذ بعد أن كان مسيحيا كاثوليكيا مؤمنا بتلك العقيدة، تحول إلى الدين الإسلامي، وفي هذا المعنى “يميز لويس رامبوبين معنيين هما التحول الذي يصف ظاهرة الاعتناق بشكل أفضل، وكلمة اعتناق Conversion التي تتضمن ظاهرة مستقرة. وتضع مونيكا وولراب-ساهر حدودا بين كلمة اعتناق Conversion،وكلمة تبدلAlterationوترى أن مصطلح الاعتناق يقصد به تغييرات راديكالية في النظرة إلى العالم والهوية، ومرتبط بصراع، عدا العلاقة اتجاه الماضي والالتزامات السابقة. بينما يقصد بالتبدل شكل أقل راديكالية من التغير الديني والأيديولوجي الذي يشمل بصورة أكبر الالتزامات السابقة. إذ يمكن أن يرى التبدل باعتباره صيغة متطورة تتولد من مواجهة خبرة جديدة من دون الحاجة إلى قطيعة حقيقية مع الماضي. بينما الاعتناق هو صيغة صراعية تتولد من أزمة تنتهي إلى مغايرة حادة مع الماضي”[31].
إذا ما حللنا المفارقة الاصطلاحية التي عبر عنها كل من “لويس رامبو”، و”مونيكا وولراب-ساهر”،وجدنا بأن ما أراد لويس رامبوأن يشير إليه، هووجود علاقة احتوائية بين التحول والاعتناق، فمصطلح التحول إنما يعبر عن حالة اعتناق. بينما تريد مونيكا وولراب-ساهر أن تشير إلى أن التحول، أو”التبدل” –كما أتت على اصطلاحها عليه- يعبر عن قطيعة لانهائية، وهي معايشة واقعة جديدة دون الانفلات من القديم، في حين أن الاعتناق هوالقطيعة الحادة مع الماضي من جراء الصراع بين ظاهرة أوحالة دينية قديمة، وحالة دينية جديدة، يكون فيه البقاء للأخيرة.
والظاهر، هو أن التحول الديني يفصح عن حالة اعتناق، كما أن الاعتناق يعبر عن تحول داخلي، يتضمن تغيرا داخليا في النظرة الموجهة نحوالبنى الداخلية للظاهرة الدينية. وقد جاء في كتاب صلاح عبد الرزاق الموسوم بـ “اعتناق الإسلام عند الغرب: أسبابه ودوافعه”، قوله بأن “الاعتناق هوعملية تحول ديني يحدث بقوة ديناميكية لدى الناس بسبب أحداث وأيديولوجيات، ومفاهيم، وخبرات، وتوقعات، وتوجيهات”[32]. إلا أنه يمكننا أن نصف تجربة هوفمان، بأنها تجربة تحول ديني، عبرت عن خلاصة لكل التجارب والتأملات المعاشة، واعتناقه للإسلام كان تجربة معقدة لا تعبر فقط عن تبنيه لدين جديد، إنما تفصح عن حالة تحول جوهري في المعتقد، فالتحول هو مصطلح مركب الدلالات، له أبعاده الدينية، وكذا الفلسفية التي تشير إلى رؤية تأملية نقدية طويلة أدت إلى تحول إيماني تدريجيا نحو الانعتاق من القديم واعتناق الجديد.
[1]– صلاح، عبد الرزاق. اعتناق الإسلام في الغرب: أسبابه و دوافعه، بيروت لبنان:منتدى المعارف، 2010م، ص 146.
[2]– مراد هوفمان.الطريق إلى مكة، القاهرة – مصر : دار الشروق، 1998م، ص 76.
[3]– المصدرالسابق، ص 76.
[4]-مراد هوفمان.الطريق إلى مكة،مصدرسابق، ص 76.
[5]– صلاح، عبد الرزاق.اعتناق الإسلام في الغرب: أسبابه و دوافعه، مرجع سابق، ص 147.
[6]– المرجع السابق، ص 147-148.
[7]– مراد،هوفمان.الطريق إلى مكة، مصدر سابق، ص 51.
[8]– مراد،هوفمان.يوميات ألماني مسلم، ترجمة عباس رشدي العماري، القاهرة- مصر:مركز الأهرام، 1993م، ص 20-21.
[9]– المصدر السابق، ص 21.
[10]– المصدر السابق، ص 13.
[11]– المصدر السابق، ص 15.
[12]– مراد،هوفمان.الطريق إلى مكة، مصدر سابق، ص 05.
[13]– المصدرالسابق، ص.05
[14]– مراد، هوفمان.في تطور الشريعة الإسلامية، ترجمة يوسف مزاحم و فراس قهوجي، جدة-السعودية: مركز الراية للتنمية الفكرية، 2003م، ص 25.
[15]– مراد، هوفمان.خواء الذات و الأدمغة المستعمرة، ترجمة عادل المعلم و نشأت جعفر، القاهرة- مصر: مكتبة الشروق الدولية، 2002م، ص07.
[16]– مراد، هوفمان.الإسلام في الألفية الثالثة ديانة في صعود، ترجمة عادل المعلم و يس إبراهيم، القاهرة- مصر: مكتبة الشروق، د.ت، ص 12-13.
[17]– مراد، هوفمان. و عبد المجيد، الشرفي.مستقبل الإسلام في الغرب و الشرق، ترجمة إبراهيم يحي الشهابي،دمشق- سوريا: دار الفكر، 2008م، ص 115.
[18]– جميل، صليبا.المعجم الفلسفي –بالألفاظ العربية و الفرنسية و الإنكليزية و اللاتينية-،بيروت- لبنان، دار الكتاب اللبناني، 1982م، ج1، ص 259.
[19]– أندريه، لالاند.موسوعة لالاند الفلسفية، ترجمة خليل أحمد خليل، بيروت- لبنان: منشورات عويدات، 2001م، ج2، ص 846.
[20]– المرجع السابق، ص 846.
[21]– المرجع السابق، ص 229.
[22]– أحمد، مختار عمر.معجم اللغة العربية المعاصرة، القاهرة- مصر: عالم الكتب،2008م، ج1، ص795-796.
[23]– ابن منظور.لسان العرب،تحقيق: عبد الله علي الكبير وآخرون، القاهرة- مصر: دار المعارف، 1981م، ج1، مادة دين.
[24]– محمد، جواد مغنية.مذاهب فلسفية و قاموس مصطلحات، بيروت – لبنان: دار و مكتبة الهلال و دار الجواد، د.ت، ص 40.
[25]– جميل، صليبا.المعجم الفلسفي –بالألفاظ العربية و الفرنسية و الإنكليزية و اللاتينية-، مرجع سابق، ص 572.
[26]– المرجع السابق، ص 572.
[27]– المرجع السابق، ص 573.
[28]– أندريه، لالاند.موسوعة لالاند الفلسفية، مرجع سابق، ص 1204.
[29]– محمد، جواد مغنية.مذاهب فلسفية –و قاموس مصطلحات-، مرجع سابق، ص 40.
[30]– صلاح، عبد الرزاق.اعتناق الإسلام في الغرب: أسبابه و دوافعه، مرجع سابق، ص 37.
[31]– المرجع السابق، ص 37-38.
[32] – صلاح، عبد الرزاق. اعتناق الإسلام في الغرب: أسبابه و دوافعه، مرجع سابق، ص 40.