مسافة زمنية معقدة من الأيام والليالي عرفتها الجزائر، في تاريخ الجهاد التحرري، وقطعتها في أوضاع متقلبة من الصراع مع العالم في سنوات عديدة وبتضحيات جسيمة، يقدرها المناضلون عامة، وقد وقعت الهزيمة في 5جويلية 1830م،وتحقق النصر في 5 جويلية 1962، وفي هذين الظرفين للذكريين، عبرة لمن أراد أن يعتبر، وموعظة لمن يريد أن يتعظ، وموضوع تفكير لمن يحسن التفكير والموازنة، إنهما ذكريان، في يوم واحد تتجددان أمامنا، وقد اختلطت فيهما أحزان الهزيمة بأفراح النصر، واجتمعت فيهما متناقضات الإخفاق والنجاح، وتعانقت فيهما عواطف الخيبة والتدهور، وعواطف الأمن والاطمئنان، عجيب أمر بعض الأحداث، تعاكس إرادة الإنسان وطموحه إلى المعالي، وتفرض عليه مواقف مؤلمة، ولذلك يحسن أن نتذكر ونتدبر ما وقع في هذا اليوم، ونقف طويلا عند تلك الهزيمة التي عاشتها الجزائر يومئذ بمرارة وبؤس، وانتهت بها إلى احتلال بغيض دام سنين، والسؤال الوجيه هنا: ما هي الأسباب التي أعانت على الانهزام، الذي أدى إلى توقيع (الداي حسين) وثيقة الاستسلام بشروط لم تحترم فيما بعد؟ في الإجابة، نذكر وقد نصيب وقد نخطئ ، أنها أسباب كثيرة منها: ضعف كفاءة وقدرات القيادة، سوء توزيع المقاتلين في الميدان، قلة الأسلحة وعدم صلاحيتها، ترك المتطوعين بعيدا عن المعركة، تفكك المجتمع والهروب من المسؤولية، الصراع الدائر بين الفئات الاجتماعية، الانغلاق أمام ما يجري في العالم، إهمال شأن التطورات الصناعية على ساحل البحر الأبيض المتوسط، الغفلة والنوم والجهل لقوة تبحث عن المواد الأولية والأسواق لمنتوجها الصناعي، وكانت العواقب التدميرية لهذا الاحتلال الفرنسي الغاشم: مصادرة الأراضي الخصبة، نهب الثروات، تخريب مقومات الشعب الدينية والمدنية، وفي مقابل تلك الأوضاع الاحتلالية شهدت الجزائر سلسلة مترابطة من الثورات التحريرية الرامية إلى استرجاع السيادة الوطنية، وتلاحقت طيلة عهد الاحتلال الفرنسي البغيض، ولكنها عجزت رغم كثرتها وتضحياتها، عن تحقيق أمل الحرية والاستقلال، لأنها لم تكن مهيأة كما ينبغي، فكانت تسيطر عليها الحيرة والتشتت في كيفية مواجهة المحتلين الذين وصلوا إلى هضبة (اسطاوالي)، واستمر الصراع، واشتعال نيران الثورات في أنحاء الوطن، وانطفاؤها بسبب ما يرافقها من خلل وغياب الإعداد، حتى انبعثت ثورة نوفمبر1954م الخالدة فانطلقت عن وعي وإيمان، سليمة الإعداد بنية التحضير، واضحة الأهداف، قريبة الغاية، وقد قدرت لها القيادة العدة والعتاد والزمن المطلوب، وفرضت لها روح الجماعة بشعار “النظام“، وخضع الجهاد والكفاح إلى العمل النضالي تحت هذا الشعار، فكل ما يتم من ثواب أو عقاب أو تحرك في الثورة يجري باسم “النظام“ الذي كان محكما بدقة، وبعد تضحيات جسيمة وخطوب من الاقتتال والمناورات والمفاوضات والمحاولات الفاشلة لإيقاف الثورة، تصل الأحداث إلى 5جويلية1962م الذي يتم فيه إعلان النصر وتحقيق الاستقلال الوطني واسترجاع السيادة الكاملة، وقد أضيف إلى قوائم الشهداء القدامى، مليون ونصف مليون من الشهداء الجدد، زيادة على التدمير والتخريب الذي لحق الجبال والسهول، ترى ما هي الأسباب التي ساعدت على هذا النصر؟ في الإجابة نلاحظ وقد نخطئ وقد نصيب من بين الأسباب.
الاستفادة من تجارب الثورات السابقة، الكفاءة في التعبئة المادية والمعنوية، التنسيق المحكم، المشاركة في تحمل المسؤوليات، الإقدام على التضحية بصدق، والعدل، وفوق هذا كله هناك تخطيط عسكري ومدني طويل المدى ومحدد الغاية، إنه من حسن حظنا أن نجد اجتماع ذكريين في يوم 5جويلية 1830م، و5جويلية1962، إذ يلتقي في هذا الظرف انهزام مر، وانتصار حلو، الأمر الذي يمكن من التأمل والمقارنة، وانتهاز فرصة استخلاص العبرة، واكتشاف الأسباب التي تجر إلى التفكك والإخفاق، والعوامل التي تهدي إلى التماسك والثبات أمام عنف الرياح التي قد يأتي بها الزمن في غفلة من بعض المجتمعات… فإلى تدبر الأحداث التي مرت بها الجزائر قديما وحديثا تحسن الدعوة ويليق التوجيه النافع، وفي هذا حرص على الخير واجتناب الشر.