مؤشراتُ انتفاضة فلسطينية ثالثة في الضفة وأراضي 1948 أ.حسين لقرع

  برغم ما يتكبده الفلسطينيون منذ بداية رمضان من معاناة وآلام جراء القمع الصهيوني للمظاهرات في القدس المحتلة والقصف المستمر بالطائرات لقطاع  غزة وسقوط العشرات من أبنائه بين شهيد وجريح، إلا أن الشعب الفلسطيني يسطّر أروع الملاحم في غزة والقدس، فالصواريخ عادت لتنهمر مجددا على التجمعات السكانية الصهيونية وتحوّل حياة المستعمرين إلى جحيم، والمظاهرات في القدس تبشر بإمكانية توسّعها إلى الأراضي المحتلة في الضفة ومن ثم اندلاع انتفاضة ثالثة تقضّ مضاجع العدو وتُنهي وهم السلام الخادع وترفع رأس الفلسطينيين عالياً.

   في 7 ديسمبر 1987، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى بعد أن أمعن الصهاينة في إذلال الفلسطينيين وسومهم سوء العذاب، واستمرت انتفاضة الحجارة إلى غاية سبتمبر 1993، لتتوقف بعدها بموجب اتفاقية أوسلو أو “غزة- أريحا أولاً” والتي قامت بموجبها السلطة الفلسطينية برئاسة المرحوم ياسر عرفات وأخذت على عاتقها مهمة التفاوض مع الصهاينة للتوصّل إلى اتفاق “الوضع النهائي” الذي يحقق السلام للطرفين وينهي الصراعَ برمّته في أفق صيف عام 1999.

   لكن المفاوضات طالت والصهاينة برعوا في التماطل والتسويف والضغط على الفلسطينيين لتقديم تنازلات خطيرة عن ملفات القدس والحدود واللاجئين والمياه وغيرها، وقد أدرك عرفات رحمه الله في قمة كامب ديفيد في أوت عام 2000، أن الصهاينة لا يريدون سلاماً مُنصفا بل استسلاماً وتنازلاً كليا عن الثوابت الفلسطينية، فأنهى المفاوضات وعاد إلى رام الله وأشعل الانتفاضة الثانية التي بدأت في سبتمبر 2000 من المسجد الأقصى إثر قيام شارون بتدنيسه، واستمرت تلك الانتفاضة نحو 3 سنوات ثم توقفت بدورها في ظروف غامضة بعد استشهاد عرفات في نوفمبر 2004 وصعود قيادة جديدة برئاسة محمود عباس.

   وقد تبنى عباس منذ البداية نهجاً تفاوضياً صريحاً مع الصهاينة وأعلن أن “السلام هو الخيار الاستراتيجي الوحيد للفلسطينيين؟” وأسقط كلية خيار المقاومة والانتفاضة من قاموسه، بل وتعهّد للصهاينة مراراً بأن يكون أول من يحاربها إذا إندلعت ضدهم، وأصدر مرات عديدة أوامره لقوات الشرطة الفلسطينية بقمع المظاهرات المختلفة بكل قوّة، وأعلن أن “التنسيق الأمني” مع الصهاينة شيىء “مقدّس” بذريعة “حماية الشعب الفلسطيني، على حدّ زعمه، ولعب عباس مراراً دور المثبّط لأي انتفاضة جديدة تلوح في الأفق من خلال قيام مظاهرات محدودة، حيث لا يتردد في مجابهتها بالقمع وإخمادها في المهد قبل أن تتوسّع.

  ومع أن المسار التفاوضي الماراطوني الذي اتبعه عباس منذ سنوات طويلة لم يُفضِ سوى إلى تكريس مخططات الاحتلال التوسّعية والاستيطانية، وزيادة إذلال الفلسطينيين، إلا أن عباس بقي متشبثا به إلى حدّ الساعة؛ فمنذ نحو أسبوع فقط صرح بأنه مستعدّ لجولة مفاوضات جديدة تدوم تسعة أشهر أخرى مع الصهاينة، مع أن جولة الأشهر التسعة الأولى لم تُفض إلى أي نتيجة.

   إلا أن الرياح تأتي بما لا تشتهي سفنُ عباس والصهاينة الذي رحبوا بدعوته هذه إلى جولة ماراطونية من المفاوضات العبثية، حيث جاء استشهاد الفتى محمد أبو خضير في ضواحي القدس على يد عصابة من المستوطنين، لتشعل النار تحت أقدام الصهاينة في القدس، وربما تحت أقدام عباس لاحقاً في الضفة، فضلاً عن تهاطل صواريخ المقاومة على العديد من المدن الصهيونية ومنها “العاصمة” تل أبيب.

   اليوم تشتعل أحياء القدس وبلدات في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 غضبا شعبيا عارما على قتل الفتى أبو خضير بتلك الطريقة البشعة الهمجية، حيث أُرغمَ على شرب البنزين وصُبّ على جسمه ثم أحرق حيا من الداخل والخارج بشكل يؤكد مدى إجرام المستوطنين ووحشيتهم وحقدهم الشديد على الفلسطينيين والعرب، ولذلك جاء ردّ فعل سكان القدس وأراضي 48، على شكل انتفاضة حجارة مستمرة منذ بداية رمضان ولم تهدأ إلى حدّ الساعة، برغم كل ما يبذله العدوّ من جهود لاخماد الانتفاضة، سواء بقمعها دون هوادة، أو بتقديم الجناة إلى العدالة الصهيونية والاعتذار لوالدي أبو خضير.

   والغريب في الأمر أن جهود إخماد المظاهرات الغاضبة لا تقتصر على الحكومة الصهيونية ورئيسها نتنياهو، بل إن الرئيس عباس أيضاً يساهم في هذا “الجهد” من خلال إيفاد مبعوثين عنه إلى مناطق التوتر لاقناع الأعيان بالمساهمة في ايقاف انتفاضة الشباب الغاضب الثائر لكرامة الفلطسنيين المهدورة، علماً أن عباس لم يُدِن قتل الفتى الفلسطيني إلا عن طريق ناطقه الرسمي في حين أدان بلسانه مقتل ثلاثة مستوطنين منذ أسبوعين، وكان قد رافع عنهم بحماس أمام قادة منظمة المؤتمر الإسلامي وأدان عملية خطفهم وزعم أنها ستضرّ بالقضية الفلسطينية.

   وفي الوقت الذي تستمرّ فيه المظاهرات في أحياء بالقدس المحتلة، تقوم فصائل المقاومة بإمطار المدن والبلدات الصهيونية المختلفة بعشرات الصواريخ يومياً، ما يؤشر لامكانية اندلاع حرب ثالثة في غزة، بعد حربي 2008-2009 و2012، لكن يبدو أن العدوّ يخشى من اندلاع انتفاضة ثالثة في الضفة وأراضي 1948 أكثر مما يخشى من قيام حرب ثالثة مع المقاومة في غزة، فالحرب أيّامُها معدودة ثم تنتهي بعد جهود ووساطات إقليمية ودولية لحاجة الطرفين إلى انهائها لتحجيم خسائرها، أما الانتفاضة الثالثة فستكون وبالاً على الصهاينة لأنها قد تدوم سنوات عديدة وتنهك جيش الاحتلال وشرطته، وتستنزف اقتصادَه وتحرج الكيان الصهيوني أمام حلفائه، والأخطر من ذلك أنها قد تتحوّل باتجاه عباس والسلطة الفلسطينية التي ساهمت في إذلال الفلسطينيين وإخضاعهم للعدو، فقد تتحول الانتفاضة الثالثة إلى “ربيع فلسطيني” تقتلع جذور السلطة الفلسطينية وتقيم على أنقاضها نظاماً آخر يعود إلى نهج المقاومة كما كان الأمرُ في عهد عرفات منذ عام 2000.

   ومن هنا نفهم لماذا يحرص الصهاينة على التهدئة هذه الأيام ويوسِّطون المصريين للضغط على حماس لقبول هدنة في غزة، وعباسَ في الضفة لوأد المظاهرات الشبانية الغاضبة قبل أن تتوسع نيرانها وتتحول إلى انتفاضة ثالثة في كامل الضفة والأراضي المحتلة عام 1948 ويتعذر بعد ذلك إطفاؤها.

   لقد حوّل عباس الشعب الفلسطيني في السنوات الأخيرة إلى شعب مستسلم لقدره وللاحتلال، لا ينتظر سوى فتات صدقات الدول المانحة ليعيش منها، وآن الأوانُ لينفض عنه غبار الذل انطلاقاً من مسقط رأس الشهيد أبو خضير في شعفاط وكذا باقي أحياء القدس.

Exit mobile version