لم يكن المسلمون الأولون في بداية الدعوة الإسلامية يملكون شيئا مذكورا من القوة المادية التي تؤهلهم إلى أن يقفوا في وجه المشركين الذين حاربوهم وحاربوا الدين الجديد بكل ما أوتوا من قوة على اختلافها بلا هوادة..!
بيد أن القوة المعنوية التي كان يملكها المسلمون من سلفنا الصالح كفلت لهم حق البقاء والتقدم نحو غايتهم إلى أن وصلوا وانتصروا من بعد ما ظُلموا، وأسسوا بعد ذلك أعظم حضارة – بدون مبالغة – لم تخدم المسلمين فقط، بل خدمت الإنسانية جمعاء.
لقد استطاع “إخلاص” سلفنا الصالح فيما مضى أن يصنع المعجزات، وأن يحوّل الهزائم إلى انتصارات، فقد كان الواحد منهم يستنشق عبير الإخلاص الصافي في كل خطوة يخطوها في سبيل الله، وما خدموا ذواتهم على حساب الدعوة، وما استوسلوا الإسلام ودعوته لنيل غنيمة، ويا لها من جريمة!
بل آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فنالوا أعظم درجة عند الله.
فقد أخرج النسائي في سننه بإسناد صحيح عن شداد بن الهاد-رضي الله عنه- أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي-صلى الله عليه وسلم- فآمن به واتبعه ثم قال: ” أهاجر معك” فأوصى به النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض أصحابه، فلما كانت غزاة غنم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقسم وقسم له – أي للأعرابي – فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان – أي الأعرابي- يرعى ظهرهم -أي إبلهم-، وما يركبون من دواب، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ” ما هذا؟” قالوا: ” قسم قسمه لك النبي -صلى الله عليه وسلم-“ فأخذه فجاء به إلى النبي-صلى الله عليه وسلم- فقال: “ما هذا؟” قال: ( قسمته لك)، قال الأعرابي: “ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى هاهنا – وأشار إلى حلقه- بسهم فأموت فأدخل الجنة”، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن صدق الله يصدقك)، فلبثوا قليلاً ثم نهضوا إلى قتال العدو، فأتي به النبي -صلى الله عليه وسلم- يحمل قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ( أهو هو؟) قالوا: نعم، قال: (صدق الله فصدقه)، ثم كفنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في جبته، ثم قدمه فصلى عليه، وكان مما ظهر من صلاته: ( اللهم هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك فقتل شهيدًا، أنا شهيد على ذلك).
وقال ابن قتيبة في عيون الأخبار: إن مسلمة (أحد قادة المسلمين) حاصر حصناً، فندب الناس إلى نقب منه فما دخله أحد، فجاء رجل من عرض الجيش فدخله ففتحه ففتح الله عليهم، فنادى مسلمة: “أين صاحب النقب؟” فما جاءه أحد فنادى: “إني قد أمرت الآذِنَ بإدخاله ساعة يأتي فعزمت عليه إلا جاء” فجاء رجل فقال: “استأذن لي على الأمير”.
فقال له :” أنت صاحب النقب؟. قال: ” أنا أخبركم عنه”.
فأتى مسلمة فأخبره عنه فأذن له فقال له: ” إن صاحب النقب يأخذ عليكم ثلاثاً: ألا تسودوا اسمه في صحيفة إلا الخليفة، ولا تأمروا له بشيء، ولا تسألوه ممن هو”.
قال: “فذاك له”.
قال: “أنا هو”.
فكان مسلمة لا يصلي بعدها صلاة إلا قال: ” اللهم اجعلني مع صاحب النقب”.
ولهذا كان الإمام سفيان الثوري -رحمه الله- يقول: “ما عالجت شيئاً أشدّ عليَّ من نيتي لأنها تتقلب عليَّ في كل حين”.
وكان أيوب السختياني-رحمه الله- إذا حدَّث بحديث النبي – صلى الله عليه وسلم- يشتدُّ عليه البكاء وهو في حلقته، فكان يشدُّ العمامة على عينه ويقول: ما أشدَّ الزكام..ما أشدَّ الزكام..
وقال أبو حازم -رحمه الله-: “لا يحسن عبدٌ فيما بينه وبين ربه إلا أحسن الله ما بينه وبين العباد، ولا يعوِّر ما بينه وبين الله إلا أعور الله ما بينه وبين العباد، ولمصانعة وجه واحد أيسر من مصانعة الوجوه كلها”.
وهذا داود ابن أبي هند- رحمه الله- صام أربعين سنة ما علم به أهله..كان له دكَّان يأخذ طعامه في الصباح فيتصدق به، فإذا جاء الغداء أخذ غداءه فتصدق به، فإذا جاء العشاء تعشى مع أهله.
وكان- رحمه الله- يقوم الليل أكثر من عشرين سنة ولم تعلم به زوجته.
إن الذي يفتح جامع صحيح الإمام البخاري – رحمه الله – سيجد أنه افتتح كتابه بالحديث المشهور الذي يرويه عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ( إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل أمريء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)، إشارة من البخاري إلى أهمية إخلاص النية في الأعمال والأقوال والأحوال.
قال الإمام ابن تيمية -رحمه الله- في الفتاوى (22- 218)) : وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه”، مراده بالنية النية التي في القلب دون اللسان باتفاق أئمة المسلمين الأئمة الأربعة وغيرهم.
وسبب الحديث يدل على ذلك فإن سببه أن رجلا هاجر من مكة إلى المدينة ليتزوج امرأة يقال لها: (أم قيس فسمي مهاجر أم قيس).
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ص24): “ونقل ابن دحية أن اسمها قيلة بقاف مفتوحة ثم تحتانية ساكنه”.
يقول سماحة الشيخ عبد الرحمن شيبان-رحمه الله- في سانحته المعنونة بـ”منهاج جمعية العلماء في الإصلاح والثورة” المنشورة في البصائر العدد 336: (ولعل العنصر الأكثر تأثيرًا في نجاح جمعية العلماء في دعوتها والنهوض بالشعب نحو الكمال، إنما هو إخلاص علمائها العاملين في دعوتهم وأعمالهم، عملا بقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الشيخان البخاري ومسلم –عليهما رحمة الله- واللفظ لـمسلم عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- قال: “سمعت رسول الله يقول: “إنما الأعمال بالنية…”.
وهو ما جسمه الإمام ابن باديس –رحمه الله- في حياته العملية، وعبر عنه في خطابه الذي ألقاه بمناسبة الاحتفال العظيم الذي حضرته وفود وافدة من كل أرجاء الجزائر المقام بقسنطينة سنة 1357هـ -1938م احتفاء بختمه تفسير القرآن الكريم –تدريسًا-، وذلك في معرض ذكر من كان لهم الفضل عليه في تكوينه العلمي والعملي، وهم: والده، ومشايخه، وإخوانه العلماء، ثم الأمة التي قال في شأنها: “ثم الفضل لهذه الأمة الكريمة المعوانة على الخير، المنطوية على أصول الكمال، ذات النسبِ العريق في الفضائل، والحسب الطويل العريض في المحامد”.
“هذه الأمة التي ما عمِلْتُ يومًا –عَلم الله- لإرضائها لذاتها، وإنما عملت، وما أزال أعمل، لإرضاء الله بخدمة دينها ولغتها؛ ولكن الله سدَّدها في الفهم، وأرشدها إلى صواب الرأي، فتبينت قصدي على وجهه، وأعمالي على حقيقتها، فأعانت، ونشطت، بأقوالها، وأموالها، وبفلذات أكبادها؛ فكان لها بذلك كله من الفضل في تكويني العملي أضعاف ما كان لتلك العناصر في تكويني العلمي”.
“ثم الفضل، أولا وأخيرًا، لله، ولكتابه الذي هدانا لفهمه، والتفقه في أسراره، والتأدب بآدابه.
وإنّ القرآن الذي كوَّنَ رجالَ السَّلف، لا يكثُرُ عليه أن يُكَوِّن رجالاً في الخَلف، لو أُحْسنَ فهمُهُ وتدبُّرُه، وحُمِلتْ الأنفُسُ على منهاجه”.
إن الداعية المرائي –كما يقول الداعية الشيخ المرحوم محمد الغزالي في كتابه (مع الله) – يقترف جريمة مزدوجة، إنه في جبين الدين سُبَّة متنقلة وآفة جائحة، وتقهقُرُ الأديان في حلبة الحياة يرجع إلى مسالك هؤلاء الأدعياء، وقد رُويت آثار كثيرة تفضح سيرتهم وتكشف عقباهم، والذي يحصي ما أصاب قضايا الإيمان من انتكاسات على أيدي أدعياء التدين لا يستكثر ما أعد لهم في الآخرة من ويل..والعمل الخالص الطيب -ولا يقبل الله إلا طيبا- هو الذي يقوم به صاحبه بدوافع اليقين المحض وابتغاء وجه الله، دون اكتراث برضا أو سخط، ودون تحرٍّ لإجابة رغبة أو كبح رغبة.
فما أحوج الدعاة في عصرنا إلى أن يتحسسوا أحوال سلفنا الصالح، ويتتبعوا خطاهم في سيرتهم ومسيرتهم حتى ينجحوا كما نجحوا، ويلقوا الله –عز وجل- وهو عنهم راض.