إني نذرت للرحمن صوماً، عن الغذاء وكل عوامل الإغراء، ونذرت له صوماً بأن اجتنب كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم، فأصوم إيمانا واحتسابا.
ولكي يكون صومي إيمانا واحتسابا، فقد ألزمت نفسي، بأن يصوم لساني عن اللغو، ويصوم قلمي عن كل ما في القول من لهو.. وإن من لهو القول الخوض في السياسة، في بعدها العربي والإسلامي.
إن الحديث في السياسة العربية، من كبائر الإثم والفواحش، ومن مبطلات الصوم بالمفهوم القومي الوطني.
أتدري يا قارئي العزيز ما السرّ في كل هذا؟ لأن السياسة في وطني العربي، تبعث على الغثيان والقرف، وتبعد صاحبها عن قدسية المبادئ، ونبل الهدف.
فعندما نتحدث في السياسة عن العراق وما يعانيه شعبه من المشاق، ندرك أن العراق كما قال فيه إمامنا الإبراهيمي “أعيى داؤه الراق”، فالسجن والشنق على الهوية، والقتل والسحل على المذهبية، فلم يعد هناك أي معنى – في العراق – للانتماء للقومية العربية، ولا عبرة بما يسمى بالقضية العراقية.
فهذه الأرواح التي تزهق، والأنفس التي تشنق، والخيرات المعدنية التي تسرق، إن هي إلا نذير شؤم وخراب لما يدور في العراق، من صدام واحتدام، وإن الخوض فيه لمما يؤدي إلى إفساد الصيام.
وتعالوا بنا إلى سوريا الشام، وما جرّته على شعبها وأمتها، من ويلات الدمار والإعدام، وهدم العمارات على ساكنيها الأحياء، من الرضع والركع، والشيوخ والنساء من كل الفئات والأقوام. فهل هم يتقاتلون من أجل إحياء سوريا، وماذا أبقوا لسوريا من علامات الحياة؟
إن سوريا الحضارة العربية الإسلامية التي كانت رمز التراث الثقافي الأصيل، ومهد الفن الحلبي الجميل، وعنوان المسرح الهادف الملتزم الأثيل، إن سوريا هذه قد طاف عليها طائف الظلم، والفساد، والطغيان والعناد، فجوّل عمارها خراباً، ونموها سراباً، وأمنها وحشة ويبابا.
لقد تشردت حرائر وأحرار سوريا، فهم في العراء هائمون، وسكنوا الخيام، والأكواخ، بعد أن كانوا في العمارات الشاهقة يتنعّمون.. أليس كل هذا من كبائر الإثم والفواحش في السياسة، مما يبطل الصوم، ويبعد النوم، ويضاعف الجناية والجرم؟
فإذا عدنا إلى مصر الكنانة، قلب العروبة النابض، ورمز الأزهر الرابض، ومعدن الفكر، والفن والأدب الناهض، هالك في شوارعها زرع المتاريس، ومطاردة العتاريس، والزج في السجون بالطالب والطالبة والأنيسة والأنيس، ولا ذنب لهم جميعاً، إلا الإعراب عن مشاعر حرية الفكر والتدريس. عجيب –والله- لدولة تسجن، رؤساءها، وتعدم علماءها، وتعتقل حكماءها، وتعذب فقهاءها، وتكمم شعراءها، وتقصي نبلاءها، ثم تطمح أن تحقق الاستقرار والديمقراطية.
إن شجرة الديمقراطية دوحة تسقى بالعدل، وتصان بالحق، وتنمو في ظلال الحرية، وقبول مبدإ الاختلاف، فإذا انعدم كل هذا، وساد القهر، والقمع، والإعدام الجماعي، فذلك إيذان بالخراب، كما يقول ابن خلدون.
ووالله إننا نحب مصر، ونحب لشعب مصر كل خير، وكل إزدهار، وبدافع من هذا الحب ننصح للقائمين على مصر، بضرورة التغيير إذا ما أرادوا التعمير، ونذكر بقول أمير الشعراء أحمد شوقي:
نصحت ونحن مختلفون دارا لكن كلنا في الهم شرق
فيا أبناء مصر الكنانة!
ونحن في مستهل شهر رمضان، شهر التسامح والمغفرة، والمحبة والتضامن، هلموا جميعاً إلى مصالحة شاملة كالتي صنعتها الجزائر، تبدأ من المصالحة مع الذين تختلفون معهم، حتى يلتئم جرحكم، ويقبل صومكم، ويتوحد جمعكم… وثقوا من أن مصر، لا يبنيها فريق واحد، ولا مذهب واحد، وإنما يبنيها الإيماني، والعلماني، والقبطي والإخواني.. فإن لم تفعلوا، فسيكون الدم الذي يراق بالمحاكمات، والسجن الذي يحشد بالاعتقالات، والجموع المتظاهرة التي تفرق بالمفرقعات، هي مبطلات للوطنية وللصوم مفسدات، واللهم إني صائم!
وهل أتاكم حديث ليبيا النائية، تلك القطعة العزيزة من وطننا العربي، حلقة الوصل بين مشرقه ومغربه! ماذا دهى ليبيا العروبة والإسلام، حتى صارت تسام كل أنواع الخسف، والاقتتال، والصدام؟
تالله إننا لمحزونون لما يحدث في ليبيا! فقد عهدناها، رغم ما عانت من ظلم، وقهر واستبداد، عهدناها واحة حب وسلام، تقرى الضيف، وتكره الحيف، وتعبن على نوائب الدهر بالسيف، فخرج عليها من بني جلدتها من يحاول إبدال أمنها خوفاً، وأريحيتها خسفاً، وقوتها ضعفاً.. فلمصلحة من يعمل هؤلاء؟
أيا كانت أغراضهم وأطماعهم، فإن ليبيا أطهر منهم وأظهر.. إنها لا تزال تلملم جراحها، وتتجاوز أتراجها، وتحاول أن نستعيد أفراحها، فإذا طائف من الشيطان الداخلي والخارجي مسها، فإذا هي في شنآن وغليان، وإذا الذي يمشي فيها خائفاً يترقب، من سهم طائش يصيبه، أو غادر مارق يريده، أو شيطان مارد يستهدفه ويبيده.
إن هذه والله، لمن مبطلات الإسلام، وإنها للحالقة التي تخلق الدين والوطن، ومقوماتهما من صلاة وصوم، وحج، ووحدة وطنية، ووئام شعبي، وإباء إسلامي وعربي.. أيكون هذا والناس صيام؟
لقد كنت نذرت أن أنأى بنفسي عن كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم، وما اللمم إلا أن أخوض في أمر اللعب بدل الجد، وأن أنزل إلى مستوى الملاعب والجماهير، لأعيش أجواء الفريق الوطني في كأس العالم بالبرازيل. إن الانتصار الذي حققه فريقنا الجزائري جدير بالتوقف من الجميع. وإن من اللمم، أن نسجل أن انتصار الفريق الجزائري على ما عليه من مآخذ هو انتصار يستحق التنويه، والتقدير، فحتى ولو كان الانتصار في ساحة اللعب، فإنه يقارن بالهزائم لدول كبرى كإسبانيا، وبريطانيا، وإيطاليا، واليابان، وروسيا، وهذا هو موضع إعجاب بفريقنا، والتعجب من الفرق الأخرى، لقد تمكن فريقنا –باللعب-من أن يذكى روح الوطنية في عقول وقلوب شعبنا، وأن يوحد الجماهير على حب الجزائر، وهو ما عجزت عنه كل السياسات في جميع مكوناتها..
فتحية إلى الفريق الجزائري على انتصاره، ولكن يجب أن لا ينسينا هذا الانتصار معاناة أبنائنا وهم في السجون الإسرائيلية والعربية قابعون، وهم مشردون في الخيام تائهون وجائعون، ومظلومون وخائفون من سيف الجلاد، فهم يتضرعون.
إننا نتضرع إلى الله بقلوب خاشعة، وعقول قانعة، أن يفرج كربنا، وأن يبدل خوفنا! فاللهم إننا صائمون.