الديمقراطية والتنمية: أي علاقة؟ أ.د مولود عويمر

لا تطمح هذه المقالة إلى الإجابة عن الأسئلة الآتية بقدر ما هي حريصة على إثارة النقاش حول العلاقة بين الديمقراطية والتنمية لتحديد مسار التغيير في العالم العربي لبناء مجتمع المواطنين:
هل التنمية مفهوم اقتصادي مرهون بالسياسي؟ هل الديمقراطية عملية سياسية لا علاقة لها بالتفكير الاقتصادي؟ هل يمكن لكل تطور سياسي طبيعي أن يحقق رفاهية المجتمع الذي يتحرك في محيطه؟ هل تنجح الثورات العربية في تحقيق التنمية والديمقراطية؟
التنمية مفهوم اقتصادي مرهون بالسياسي؟
لا شك أن التنمية هي من مفردات القاموس الاقتصادي. فكلما استعصى علينا مفهومه وجدنا ضالتنا في قاموس علم الاقتصاد الذي يعرفها بتحسن مستوى معيشة الفرد والمجتمع. غير أنها ليست معزولة عن السياسة التي لها نصيب في تطورها من خلال وضع برامج تطبيقية تصنع مجالا لتجربة أفكار اقتصادية تنجح أحيانا، وتفشل أحيانا أخرى.
غير أن مسؤولية السياسي تتضاعف لأنه سيخضع للمراقبة، بينما الاقتصادي لا يتحمل المسؤولية، بل يستفيد من النجاحات والإخفاقات معا للمضي قدماً في التفكير والتنظير من جديد. ولهذا يقال للسياسي إذا نجح بأنّه أدى الواجب، وإذا فشل بأنه يجب أن يقصى ويتاح المجال لغيره.
لقد صرح السيد باسكال لامي مدير عام المنظمة العالمية للتجارة في محاضرة قدمها أمام طلبة معهد العلوم السياسية بباريس في عام 2012: “يمكن اعتبار الاقتصاد من بعض وجهة نظر مرتبطة بالعلم، والاقتصاد السياسي، غير ذلك. والمهم هو في نهاية المطاف، هي تلك الفوائد التي يتحصل عليها المواطنون والمواطنات من تطورات هذا النمو الاقتصادي.”
هل الديمقراطية عملية سياسية لا علاقة لها بالتفكير الاقتصادي؟
لقد بيّنت العديد من التجارب التاريخية أنه ليس كل نظام مستبد بالضرورة يصنع مجتمعا فقيرا، وأن كل مجتمع غني لا يفرز إلا نظاما عادلا وحريات لكل الأفراد والجماعات التي تعيش تحت ظلاله.
إنّ الدول التي حققت نسبة عالية في التنمية منذ ستين عاماً توجد في آسيا الشرقية البعيدة عن النمطية الغربية في التسيير السياسي والاقتصادي. فالمتمعن في التجربة اليابانية والكورية يجد أن سياستها الاقتصادية يوجهها رجال القانون، بينما يوجه المهندسون السياسة الاقتصادية في الصين وتايوان.
وهكذا تساءل الباحث الفرنسي ميشال آغليتا في مقال نشره في مجلة “إسبري” عن مدى حاجتنا اليوم إلى الاقتصاديين كأنهم المسؤولون عن الأزمات المتعاقبة في أوروبا بعد عقود من التنمية والرفاهية؟ ذلك بأن الذين أداروا حركة النهوض الاقتصادي في فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية ليسوا علماء الاقتصاد أو خريجي المعاهد الاقتصادية، فجون موني كان عصاميا وتاجرا للخمور، وفرانسوا بلوك ليني كان قانونيا.
وينتهي آغليتا إلى هذه القناعة التي تثير استغراب المتحمسين للنموذج التعليمي الفرنسي عندنا: ” عكس الدول الأنجلوساكسونية، التكوين الاقتصادي الجامعي لم يكن له أي نصيب في الإقلاع الاقتصادي في بلادنا”.
إن التنمية ليست نظريات اقتصادية ينتجها العلماء، ويقرر تطبيقها السياسيون ولو كانت بيئتها غير مناسبة، وإنما هي ممارسات واقعية وملموسة ومتراكمة تحقق نقلة نوعية في حياة الناس بغض النظر عن من وضعها بناء على خبرة نظرية أو تجربة ميدانية.
هل يحقق كل تطور سياسي طبيعي الرفاهية؟
يرى المفكر كارل بوبر أن الديمقراطية رغم نقائصها صنعت أفضل العوالم السياسية في التاريخ، وحققت معجزة الازدهار الاقتصادي، بينما يرى المفكر كارل غيورك تسين في كتابه “الرخاء المفقر” أن الديمقراطية تساهم في صناعة التنمية لكنها لا تنجح دائما في تعميمها على كل المواطنين، فيقول في هذا الشأن: ” لا مراء في أن تتيح الديمقراطية إمكانيات واسعة للتقدم الاجتماعي؛ إلا أن الانتفاع بهذه الإمكانيات ليس أمرا حتميا، فانتهاج الديمقراطية لا يضمن بالضرورة انتفاع كل أفراد المجتمع من الإمكانيات المتاحة لهم.”
ويرى مفكرون آخرون أنّ التنمية الاقتصادية ليست بحاجة إلى الديمقراطية لكي تتجسد على أرض الواقع وهم يستدلون على ذلك بقولهم أن معدل النمو في السنوات الثلاثين الأخيرة تحصد في الصين وآسيا الشرقية غير أن المسار الديمقراطي في هذه البلدان يسير ببطء شديد لا يواكب تطلعات شعوبها من جهة وتطلعات الدول العظمى في الغرب.
لقد أكد الباحثان ميخائيل ألغليتا وباي غاو في كتابهما النفيس: “الوجهة الصينية: الرأسمال والإمبراطورية” الصادر في عام 2012 أن الصين استطاعت أن ترفع 400 مليون نسمة فوق حد الفقر الذي وضعته هيئة الأمم المتحدة.
ولا شك أن الديمقراطية هي المدخل “السليم لإعادة بناء المجتمع على أساس من المصالح الموضوعية، التي تتلاءم مع منطق التاريخ في هذه المرحلة، بدلا من العلاقات والروابط الشخصانية. وكلما تعززت الديمقراطية في المجتمع كلما خلقت إمكانيات أكبر لاستنهاض مختلف القوى الاجتماعية لتلعب دورها في التنمية الشاملة وإنجاز مهام التحرير وتحقيق الوحدة القومية”.
واعترف باسكال لامي الذي أشرنا إليه سابقا أنه فشل في إقناع الدول العظمى في تكوين قوة موحدة عالمية ليس لأن هذه الدول غير قادرة عليها أو غير راغبة في ذلك وإنما لأن القادة هم دائما مرهونون بسياستهم الاقتصادية الوطنية والرقابة الانتخابية المسلطة على رقابهم.
صحيح أن قادة العالم يتحكمون في مجالاته المختلفة لكن هذا البعد الدولي يستمد قوته من الديمقراطية المحلية وليس من غيرها، ومن إقناع المجتمع المحلي بأن الخيارات الخارجية لا تتعارض مع المصالح الداخلية.
الثورات العربية والبحث عن الديمقراطية والتنمية
هل نحكم على حركة الثورات العربية بالفشل بمجرد أنها لم تؤسس بعد الديمقراطية وما يترتب عنها من الحصول على الحقوق السياسية، أم لأنها لم تحقق التنمية التي تنتظرها الشعوب التواقة إلى العدالة الاجتماعية والشراكة في الثروة؟
إن صعوبة مهمة الحكومات التي جاءت بعد الثورات العربية التي قامت بها الشعوب الحرة تكمن في أنها مطالبة بتحقيق مطلبين كل واحد منهما صعب المنال، فما بالك بتحقيقهما مرة واحدة في ظرف سريع جدا لا يحتمل الانتظار.
هل يعني هذا أن الثورات العربية جاءت قبل أوانها حتى تستطيع أن توفر الشروط الاقتصادية والاجتماعية أو أنها تأخرت حتى استفحلت الأزمة وارتفع سقف المطالب؟
العالم العربي لم يجد بعد طريقه الثالثة التي توصله إلى بر الأمان لأن النخبة العربية تعطي الأولوية لبناء الديمقراطية رغم غياب العديد من مقوّمات نجاحها، بينما العامة أو الشعوب فقدت قدرتها على الصبر من أجل التنمية بعد أن تجاوزت تضحيتها –في نظرها- كل الحدود.
غير أن الديمقراطية هي مسار طويل ضمن الشروط الثقافية، فهي ليست فقط كما يقول عالم الاجتماع آلين تورين ” مجموعة من الضمانات القانونية، أو هي حرية سلبية. إنها كفاح أفراد الرعية ضمن ثقافتهم وضمن حريتهم ضد منطق المناهج المسيطرة.”
إن التطور الحاصل في مسار المجتمع المدني في الدول الغربية مرتبط دائما بمتطلبات شعوبها التي تعبر عن توجهاتها العامة في كل المجالات بكل حرية عبر نظامها الديمقراطي، إلا أن الأنظمة المستبدة في العالم العربي تعتبر انتقادات المعارضة عرقلة لتحقيق مشاريعها وهدم لأعمالها.
وهكذا حالت دون تطور الممارسة السياسية لتصبح الأحزاب والمؤسسات سندا في بناء دولة القانون، وعونا على تكريس حقوق الإنسان، وعضدا في تحقيق الرفاهية الاقتصادية. فالديمقراطية “ليست شكلا للحكم، ولا شكلا للمجتمع”، وإنما هي “تحرير المجال العام، مؤسسات مستقلة وقوانين تنظم عملها، وثقافة يتصرف وفقها الأفراد”، ولا يمكن اختصارها في المنافسة الانتخابية، وتغيير مستمر للدساتير دون الالتزام بمضامينها.
ولا شك أن غياب هيبة الدولة أو ضعف نظام الحكم حوّل العديد من منظمات المجتمع المدني الحقيقية أو المزيّفة إلى مدعمة للسلطة القائمة للاستفادة من امتيازات مختلفة دون أن تخضع للرقابة والمساءلة من المؤسسات المخوّلة في حين أن دورها يكمن في المشاركة الفعالة في ترقية الديمقراطية الكاملة والتنمية الشاملة.
وإذا استمرت هذه الوضعية كما هي تصبح التنمية سرابا يتمسك به فقط الضعفاء، وتصير الديمقراطية ليس حلما يراود الشعوب وإنما كابوسا ينبعث منه الخوف والقلق والفوضى، فتتحقق بالتالي مقولة الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير حول ” كراهية الديمقراطية”.