أثر صيام شهر رمضان في حياة المسلم الشيخ كمال أبوسنة
يعود شهر رمضان إلينا كل عام كعادته، فنستقبله بنفس الاستقبال فرحين مكبرين مهللين، ونقوم لياليه مع القائمين القانتين، ونسأل الله في أيامه الرحمة والمغفرة والعتق من النار…ثم يذهب رمضان فنجد أنفسنا قد عدنا إلى نقطة الصفر، ليجدنا في الزيارة القادمة على نفس الحال الذي وجدنا فيه في الزيارة السابقة..!
وهنا يكمن الاختلاف بين صيام المؤمن المحتسب وصيام المرء على سبيل العادة،{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}[البقرة: 170]. لأنه وجد آباءه يصومون فصام، فرمضان بالنسبة له مجرد جوع وعطش فقط من طلوع الفجر حتى غروب الشمس…ثم بعد ذلك يأتي وقت اللعب واللهو، والسهر، وتضييع الأوقات في الأمور التافهة، فلا يكون الفرق عنده بين الشهور كلها إلا الامتناع في شهر رمضان عن الأكل والشرب..!
ولهذا جاء في الحديث صراحة أن الغاية من الصيام أن يرفع الإنسان المسلم من درجة القرب من الله حتى يصل إلى مرتبة الإحسان التي تجعل منه عبدا يلتزم بأوامر ربه في السر والعلن، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :“من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه“رواه البخاري رقم1804.
قال الإمام ابن حجر في الفتح: ” قوله: (فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) قال ابن بطال : ليس معناه أن يؤمر بأن يدع صيامه، وإنما معناه التحذير من قول الزور وما ذكر معه، وهو مثل قوله “ :من باع الخمر فليشقص الخنازير “أي: يذبحها، ولم يأمره بذبحها ولكنه على التحذير والتعظيم لإثم بائع الخمر. وأما قوله: (فليس للهحاجة) فلا مفهوم له، فإن الله لا يحتاج إلى شيء، وإنما معناه فليس لله إرادة في صيامه فوضع الحاجة موضع الإرادة، وقد سبق أبو عمر بن عبد البر إلى شيء من ذلك.
قال ابن المنير في ” الحاشية “: بل هو كناية عن عدم القبول، كما يقول المغضب لمن رد عليه شيئا طلبه منه فلم يقم به: لا حاجة لي بكذا. فالمراد رد الصوم المتلبس بالزور وقبول السالم منه، وقريب من هذا قوله تعالى:{لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحج:37]. فإن معناه: لن يصيب رضاه الذي ينشأ عنه القبول. وقال ابن العربي: مقتضى هذا الحديث أن من فعل ما ذُكِرَ لا يثاب على صيامه، ومعناه: أن ثواب الصيام لا يقوم في الموازنة بإثم الزور وما ذكر معه. وقال البيضاوي : ليس المقصود من شرعية الصوم نفس الجوع والعطش، بل ما يتبعه من كسر الشهوات وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظر القبول، فقوله: “ليس لله حاجة” مجاز عن عدم القبول، فنفى السبب وأراد المسبب، والله أعلم.
واستدل به على أن هذه الأفعال تنقص الصوم، وتعقب بأنها صغائر تكفر باجتناب الكبائر. وأجاب السبكي الكبير بأن في حديث الباب والذي مضى في أول الصوم دلالة قوية للأول؛ لأن الرفث والصخب وقول الزور والعمل به مما علم النهي عنه مطلقا، والصوم مأمور به مطلقا، فلو كانت هذه الأمور إذا حصلت فيه لم يتأثر بها لم يكن لذكرها فيه مشروطة فيه معنى يفهمه، فلما ذكرت في هذين الحديثين نبهتنا إلى أمرين: أحدهما: زيادة قبحها في الصوم على غيرها، والثاني: البحث على سلامة الصوم عنها، وأن سلامته منها صفة كمال فيه، وقوة الكلام تقتضي أن يقبح ذلك لأجل الصوم، فمقتضى ذلك أن الصوم يكمل بالسلامة عنها… ثم قال: ولا شك أن التكاليف قد ترد بأشياء وينبه بها على أخرى بطريق الإشارة، وليس المقصود من الصوم العدم المحض كما في المنهيات؛ لأنه يشترط له النية بالإجماع، ولعل القصد به في الأصل الإمساك عن جميع المخالفات، لكن لما كان ذلك يشق خفف الله وأمر بالإمساك عن المفطرات، ونبه الغافل بذلك إلى الإمساك عن المخالفات، وأرشد إلى ذلك ما تضمنته أحاديث المبين عن الله مراده، فيكون اجتناب المفطرات واجبا، واجتناب ما عداها من المخالفات من المكملات، والله أعلم”.
قال لي أحدهم يوما: كيف أستبين أن صيامي مقبول؟
قلتُ له: علمُ ذلك عند ربي، ولكن لكل عبادة أثر، فإن أحسست بأنك بعد رمضان ازددت رقيا روحيا وتقدما في دينك وصرت أكثر التزاما فإن ذلك من المبشرات بقبول العمل، وإلا فابكِ على نفسك..!