يمتزج في الجزائر، هذه الأيام، صليل الأقلام، بأصوات المناجل، وصدى عجلات المحراث، وخوار البقر، وكلّ ذلك إيذانًا بحلول زمن الحصاد في الصيف الجزائري.
فبعدما جفّ عرق جبين طلاب العلم، من حرارة الامتحانات، فهدأت العقول، هاهي المزارع والحقول، تتعالى فيها أصوات عجلات المحراث، والمناجل، معلنة بدأ حصاد الحقول والعقول.
ولا يقتصر الحصاد في هذا الصيف الجزائري على المدارس والمغارس، بل يتعدّى ذلك إلى مجال المساجلات لتجاوز الاحتقان السياسي، وفنتة السباق نحو مناصب الكراسي، بدء بحركة الولاة إلى السياق الدبلوماسي.
في بلادي الجزائر، اليوم، أعراض لصيف ساخن، يُرسِل بحرارته على أكثر من صعيد… فبعد حمى الرئاسيات وما تلاها من عراك حول العهدة والصلاحيات، ها هي ذي المعركة تدور حول اقتراحات تعديل الدستور، ومحاولة كشف المستور، والعمل على إصلاح الإصلاح، لتصويب مقاليد الأمور.
إنّ الانقسام الذي تعيشه الطبقة السياسية اليوم بين دعاة الأمل في استغلال كلّ ما هو ميسور للتغلب على الاحتقان المنذر بانسداد الأمور، وكثافة ما تخفيه الليالي من ظلام ومن ديجور، لا يضاهيه إلا ما يقابله من حداة اليأس من المقدّمات الخاطئة التي تُدار بها المشاورات، والغموض السائد فيما يتعلّق بوضوح الأهداف والغايات.
ويستند هؤلاء من دعاة المعارضة إلى تجارب مضت، منذ سنين خلت، أُدِيرت فيها مشاورات، وجُنِدت لها طاقات وكفاءات، ولكنّها ذابت كلّها في مجموعة من اللاآت.
والذي يتجلّى من كلّ هذه المواقف بين دعاة الأمل وحداة اليأس أنّ ما تعيشه الجزائر من احتقان سياسي واجتماعي، ليس مرَدُه إلى انعدام الدستور وفقدان الحوار الظاهر والمستور، وإنّما الاختلاف يبدأ من طبيعة تحديد فلسفة الكليّات في النظام، والاتفاق على أسس المجتمع الذي تضمن الوئام والانسجام.
إنّ الغريب في ما تُعرب عنه أعراض التأزّم السياسي في الجزائر هو الاختلاف على الكليّات لا الجزئيات، وعلى الأصول لا على الفروع، فما زلنا لم نحسم بعد مسألة الانتماء، ومن نكون؟ وما زلنا نتساءل إلى أيِّ محيط حضاري نحن منسوبون؟ وما هي مقوّمات وحدة شعبنا جغرافيا، وتاريخيًا، وثقافيًا، وحضاريًا، في هذا الكون؟.
إنّها الأسئلة التي قصمت ظهر المجتمع الجزائري، وكنّا نظنّ أن مثل هذه التساؤلات قد حسمها الإسلام منذ حلوله بهذا الوطن منذ خمسة عشر قرنًا من الزمن.
وأنّ لغة الإسلام التي وحدتنا في الدين والدنيا قد استقرّت بطريقة حرّة لا تقبل معها منافسة أو ضرّة. وكنَّا نظنّ –وهذا الظنّ ليس إثمًا- أنّ معارك الجهاد الوطني عبر التاريخ الذي تُوِّج بأوّل نوفمبر، قد أذاب فينا كلّ أنواع النعرات الطائفية، وألوان التيارات الانسلابية، فانصهرنا جميعًا في الوحدة الوطنية الجزائرية ذات الأصول الأمازيغية، وذات الأبعاد العربية الإسلامية.
فأن نعيد سؤال من نحن؟ بعد خمسة عشر قرنًا من الوجود الوطني، فذلك نوع من النشاز المعرفي الذي يمثل علامة من علامات قيام الساعة في الجزائر.
فإذا أضفنا إلى كلّ تلك القضايا المصيرية قضية طبيعة الحكم الذي يحكمنا، ومسألة المناصفة بين المواطنين والمواطنات الذين يكوِّنون شعبنا، أدركنا أنّ التاريخ الجزائري لم يُحدِث فينا تأثيره المطلوب، وأنّ الإسلام الذي هو اسمنت وحدتنا لم يُحدِث فينا التغيير النفسي المرغوب.
وهنا تكمن بذور الأزمة المصيرية التي نعانيها. فالمنظومة السياسية التي حكمتنا والمنظومة التربوية التي صقلتنا، فشلت في إعادة صياغتنا، وأخفقت في تكوين ذهنيتنا لأنّها لم تُعمِق فينا مفهوم الانتماء، ولم تطبعنا بطابع الوحدة والتشييد والبناء.
مشكلة الجزائر العميقة –إذن- لا تكمُن في تقديم المقترحات على تعديل الدستور، ولا في مغازلة مشاعر الجمهور، بل إنّها قضية إعادة تصحيح المفاهيم، وصياغة الأقانيم، وتحديد التعاليم، وإسناد الأمور للكفاءات، والنزاهات من جميع الفئات والأقاليم…
عندما نعي هذه الحقائق ندرك أنّ الجميع نظامًا ومعارضة يجب أن ينطلق من قاعدة أساسية صلبة، وهي أنّ البناء الوطني لا يبنى بالتشنّج والانفعال، ولا بالتعصب والابتذال ولا بالقيل والقال، وإنّما بتعاون النساء والرجال، والاقتناع بغايات المستقبل الموّحد، المتكامل الفعّال.
يجب أن ننأى في بنائنا المستقبلي عن التقليد الأعمى في استيراد نماذج من أنظمة لا تمتّ إلى واقعنا بصلة، فالبناء الصحيح لابدّ أن يُبنى بأحجار البلد واسمنته، وحديده إذا ما أردنا له الديمومة والبقاء… وإنّ لكلّ شعب طبيعته النفسية، والاجتماعية، والعقدية التي تتطلب نظامًا سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا لا ينافي طبيعة هذه الخصوصيات ولا يناقض ثوابت المعتقدات.
لقد فهم علماؤنا وزعماؤنا وشهداؤنا كلّ هذه المعطيات، فتجنّدوا لتحقيق ما سموه بالكليّات، ورسموا للأجيال قواعد هي ما عُرِفت بالأساسيات.
فيوم يعي الجيل الجديد مقاصد تراث الماهدين، وأبعاد بناء الخالدين من ضرورة صيانة وحدة المواطنات والمواطنين يومها نقتنع بأنّ الجزائر قد خرجت من منطقة الاضطرابات، وقاربت مرحلة الأمن والأمان والإيمان، ومحطة الوئام والسلام، والاطمئنان، وعندها تصبح الدعوات إلى الإصلاحات، والتغيير نابعة من طمأنينة الوعي، وسلامة الضمير، وذلك هو خير ضمان لتقرير المصير، والنأي بالجزائر عن كلّ مخاضٍ عسير، وسوء مصير.