فوجئت بأسئلة أرسلتها لي إحدى الصحافيات تستفسر عن الصناديق السوداء في بلادنا، وكنت أظن أن هذه الصناديق التي تتحدث عنها أكل الدهر عليها وشرب خاصة مع تطور الاقتصاد وأدوات الرقابة المالية التي أصبحت (حسب تصريحات المسؤولين في بلادنا) أكثر دقة وصرامة، وعليه فهذه الصناديق التي تم إلغاؤها في فترة سابقة كان بتوصية من مجلس المحاسبة والبرلمان، غير أن تطور الوضع الاقتصادي والسياسي داخل البلاد وخارجها أرجع هذه الصناديق للواجهة، والسؤال الذي يتبادر إلى ذهني هو: هل يعقل أن دولة تحترم نفسها ومؤسساتها تسير بصناديق سوداء؟ ثم ما هو مبرر استخدام هذه الصناديق؟ وهل هذا يتوافق مع مبدأ التسيير الشفاف لأموال الأمة؟.
فبالنسبة للسؤال الأول فالدول التي تحترم نفسها وهي تلك التي قضت تماما على الممارسات غير السوية (المشبوهة) في أساليب التسيير التي كانت بارزة خلال فترات الحرب الباردة، وغدت اليوم تتمتع بشفافية كاملة خاصة تجاه ممثلي شعوبها في المجالس البرلمانية، بل تبنت قوانين صارمة ترفض أي شكل من أشكال التسيير المشبوه والغامض لميزانياتها، ووصل الأمر إلى حد أن الهدايا المقدمة لرؤساء دولهم لها سجل خاص مفتوح للمواطنين بها كل تفاصيل تلك الهدايا التي يتلقاها.
وإذا نظرنا إلى السؤال الثاني فنكتشف أن مبررات استحداث مثل هذه الصناديق يتعلق بجوانب سياسية وجوانب أمنية وأغراض أخرى، غير أن كل هذه المبررات واهية، فليس هنالك عمليات يمكن استثناؤها من الرقابة المالية مهما كانت، فالأمر يتعلق بتسيير أموال الأمة الذي يجب أن يكون شفافا بشكل كامل.
وعليه فالصناديق السوداء لا تتوافق تماما مع قواعد التسيير الشفاف لأن تسييرها لا يخضع لأية قاعدة، وهي مصدر من مصادر الفساد إذا لم نقل أنها شكل من أشكال التقنين الرسمي للفساد.
من جانب آخر لماذا ننشئ صناديق سوداء بالموازاة مع الصناديق الرسمية التي تخزّن فيها أموال طائلة لمشاريع يتعطل إنجازها سنوات حتى إذا وصل وقت تنفيذها اكتشف أن تكلفتها تضاعفت، بالمقابل تجد الصناديق السوداء يكون التنفيذ فيها مباشرة، فتسحب الأموال الطائلة وتصرف في كسب ودّ الأشخاص، وزيادة عدد القنوات الفضائية الداعمة، ودعم الصحف الموالية، وأحيانا لدعم النشاطات الترويجية لمشروع سياسي، وأحيانا تلجأ دول تشبهنا إلى الاستعانة بهذه الصناديق لتمويل الفتن وإثارة الشعوب ودعم المعارضين في الخارج، يضاف إلى ذلك نشاطات غير سوية وغير أخلاقية كالرشاوي للفوز بالصفقات، وشراء الذمم، بل أحيانا لتشويه سمعة دول وأشخاص.
فهل يمكننا أن نكون مثل هذه الدول التي تتخذ من الصناديق السوداء أداة قذرة لتمرير مشاريعها التوسعية ذات الأبعاد السياسية، وهل نرضى أن بلادنا تسير بصناديق مشبوهة، ألم نصبح دولة متحضرة لها قوانين تنظم كل جوانب حياتها حتى نلجأ للاستعانة بمثل هذه الصناديق، ثم ألم يكفنا ما عانيناه وما نعانيه من الفساد الاداري والمالي الذي نخَرَ جسد اقتصادنا.
لقد آن الأوان أن نتوقف تماما عن التصرف كما كانت تتصرف تلك الدول التي كانت تابعة في سياساتها للمعسكر الشرقي ولا تلك التي كانت تابعة للمعسكر الغربي، ومهما كانت المبررات لاستحداث هذه الصناديق فهي مبررات واهية، فنحن نتكلم عن أموال أمة وليس أموال مملوكة لفرد يتصرف فيها كما يشاء دون حسيب أو رقيب…