هل كتب على أمتنا أن تكون أمة الهزائم، وعلى شعوبها أن تعيش عيشة السوائم؟ وإلى متى يحكم على أمتنا، وعلى شعوبها أن تعاني الخسف والظلم، ومعاملة البهائم؟
لقد عانت أمتنا من الهزائم المتعاقبة، حتى لم تعد تعرف النصر أو تحلم به. منينا ونحن جيوش عربية كثيرة ضد جيش واحد من هزيمة 1948، بسبب الأسلحة الفاسدة، والقيادات الراكدة، والذهنيات البائدة، وعللنا أنفسنا، بأنها مجرد نكسة، أو نكبة، ولكننا ضيعنا بها فلسطين، ودُسَّتْ جباهنا، وأنوفنا في الطين.
ودخلنا الحرب في عام 1956، على وقع أناشيد الطبلة والمزمار، فضيعنا فرصة الثأر، واستعادة الأمصار، وقلنا أنه تحالف الصهاينة مع الاستعمار، فخرجنا بأنكى ما يمكن من الخراب والدمار، وظللنا نلعق جراحنا، ونعد العدة بتدريب جيوشنا، وتجديد أسلحتنا، فجاءت هزيمة يونيو 1965، التي جللتنا بالعار، وفقدنا فيها ما بقي من الكرامة ومن الأمصار.
ثم جاءت معركة العبور التي حسبنا أننا عبرنا بها نفسيا وعسكريا من مرحلة الهزائم، إلى مرحلة الغنائم، والخروج من المآتم والمظالم، ولكن ما راعنا إلا وأننا جددنا العهد بالهزيمة، وبؤنا بخسارة عظيمة، بسبب الخيانة اللئيمة، والقيادة السقيمة.
هكذا، إذن، تطل علينا هذه الهزائم برؤوسها كرؤوس الشياطين، لتذكرنا بدروسها التي لم نحسن الإصغاء إليها، لتقول لنا على لسان الشاعر العظيم نزار قباني:
لا تقتفوا آثارنا لا تكتبـوا تاريخنــا
فنحن تافهـون كقشرة البطيخ تافهون
لم تعد أمتنا العربية والإسلامية تكتفي بالهزائم على أيادي الأعداء، فنسلي أنفسنا، بقول صاحب الألفية النحوية: والحي قد يَغلب ألف ميت
إن الأنكى أننا أصبحنا نعاني هزيمة ذاتنا، فما كان نصراً باسم الربيع العربي، تحول إلى هزائم نكراء يطبعها الدم، والقتل، والانقلاب، والاضطراب، فكانت “الوخدة” في تمزيق الوحدة.
واليوم، وأم الهزائم، في يونيو تطل علينا، مذكرة إيانا بما فقدنا من بقايا الأرض، وبما ضيعنا من متطلبات الواجب والفرض. لم يعد لنا أي مبرر فتعلل به، أمام ما يتجدد في أرضنا من هزائم، بدء بالعراق وما يعانيه من حرب الرفاق بسبب النفاق والشقاق، إلى سوريا الدامية ومحنتها الغالية، إلى ليبيا، الشقية بأبنائها، المغتالة بقادتها وزعمائها. ولا ننسى اليمن الذي كان سعيداً، فأضحى طريداً، ومصر الكنانة التي كنا ندخلها آمنين، فصارت مأوى ذئاب للمارقين والانقلابيين، تهزها الاعتقالات، وتطبعها الاعتداءات على الطلاب والطالبات، والمراهقين والمراهقات. وتونس الخضراء، التي كانت تؤنس من الوحشة، يأوي إليها الغريب للاستجمام، ويقصدها الشعراء والمثقفون، لينهلوا من زيت زيتونة جامعتها الذي يكاد يضيء، إن تونس المؤنسة، يريد الإرهاب أن يحولها إلى موحشة، إذ يشيع فيها قتل الأبرياء، والسطو على منازل الضعفاء، فاللهم إننا نبرأ إليك مما يفعله بنا، وبأرضنا أمثال هؤلاء.
كنا نعلل النفس، بأن ما أصابنا من هزيمة، واندحار، إنما كان بسبب تسلط الظلمة، والمستبدين الفجار، فماذا عسانا نقول اليوم، وقد رفع شعار الربيع العربي، الذي “حرر” البلاد والعباد من الظلم والاستبداد، وأعاد الأمور إلى المعذبينـ والمعتقلين، وذوي الاستشهاد.
إن آثار الهزائم، التي كانت مقصورة على البلاد العربية وحدها، بسبب مكونات الفرد والأرض، قد امتد شؤمها وباسم الإسلام، إلى الصومال، وإلى مالي، وإلى نيجيريا، بعد “الطالبان”، و”بوكوحرام”.
لذلك، فإن، الأنتلجنسيا العربية والإسلامية، مدعوة اليوم، وهي تستعرض ذكريات الهزائم، أن تخضع الأحداث إلى مزيد من التأمل والتحليل، وأن ندخلها في مشرحة الطب النفسي، ومخابر الاستراتيجيات السياسية، بل وأن يخضع العقل العربي المسلم بالذات إلى تقنيات علم الأجناس والأنتروبولوجيا، عسانا نظفر بالسر الذي يكمن خلف هزائمنا الخارجية والداخلية.
فإذا كانت بلداننا تزخر بالأطباء الروحانيين، والرقاة المتميزين، وسادة الجن، الأحمر، والأخضر، وغيرهما من المتنفذين، كيف عجز كل هؤلاء، عن اكتشاف الداء، وفشلوا في العثور على الناجع من الدواء؟
لا نكذب على أنفسنا، ولا نخادع بعضنا، فنحن أمة القرآن، نحمل عوامل علاجنا في هذا القرآن بالذات. إن كل ما يتطلبه الدواء المنشود، أن نعود إلى القرآن، فنقرأه، بعقل مفتوح وقلب مشروح، لنجسدها في سلوكنا، وفي معاملاتنا، فتتحدد العلاقات، وتضبط الصلاحيات، و تقنين روابط العلاقات. لقد آن الأوان لأن نفيق مما نحن فيه، فنضع حدا لهزائمنا المتراكمة، ومأساتنا المتلاطمة، فبالرغم من كل ما قد يشوبنا من سلبيات، لا نستحق كل هذه الألوان من الجزر الذي نكابده.. بل إننا أمة قادرة على صنع الانتصار، لو تولت حكمها قيادات باقتدار.
فمتى نستيقظ من سياسات التخدير، والتبرير، والإنذار؟ ومتى نعيد، مقاليد الأمور إلى مستحقيها من أهل الكفاءة، النـزهاء الأطهار؟
إننا، بالرغم من كل السحب الدكناء التي تحجب سماء الدار نظل متفائلين، بأن نتمكن من تحويل الهزائم والانكسار، إلى انتصار وفخار.