العلماء أزواج ثلاثة: – منهم من لا يهمه ما يجري حوله، فلا يأمرُ بمعروف ولا ينهى عن منكر، ومَثَلُهُ كمثل الرِّجْلِ الأولى عند الحيوان ذي الأربع “ما تصك ما تحك”. – ومنهم من خان الله ورسوله وأمانته وهو يعلم، فانسلخ من آيات الله التي آتاهُ، وأكل دينه بدنياه، وباع ذمته بثمن بخسٍ، وعاش حياته باسطا ذراعيه، لاهثا وراء أصحاب السلطان وأصحاب المال، وقد يتخذ الكافرين أولياء ضد المؤمنين، و“لا يعرف العيب إذا امتلأ الجيب”. – ومنهم الذين عظموا ما آتاهم الله من علم، وقدروه حقّ قدره، ووظفوه في خدمة دينهم ووطنهم، وما بدلوا تبديلا حتى أتاهم اليقين، فجعل الرّحمان ـ عز وجلّ ـ لهم وُدًا.
من هؤلاء العلماء في وطننا العزيز الإمام الإبراهيمي، الذي تحُلُّ غدا ذكرى وفاته التاسعة والأربعين، وفي مقدمة من قدر الإمامَ الإبراهيمي حقّ قدره أخوه الإمام ابن باديس الذي وصفه بأنه: “فخر علماء الجزائر”.
إن الإمام الإبراهيمي هو إحدى آيات الله ـ عز وجل ـ المبصرة التي نسخ بها ظلمات فرنسا الصليبية في الجزائر، وسيبقى هذا الإمام علاّمة الجزائر كما وصفه أهل النهى، وعلاَمة الجزائر التي هي علامة رفع كما وصف نفسه، خاصة في هذا الزمن الذي افتقدت في كثير من أبنائها الذكورة فضلا عن الرجولة والفحولة.
لقد شدّني إلى هذا العَالِم الجليل أمور كثيرة منها وطنيته الصادقة، وفكره العميق، ورأيه الدقيق، وعزمه الحديد، وحزمه الشديد، وأسلوبه البديع، ونظرته الاستشرافية التي فاق بها كثيرا ممن يُسمون العلماء المُستقبليين، ومن هذه النظرات الاستشرافية التي تميّز وامتاز بها الإمام الإبراهيمي أكتفي في هذه الكلمة بمثلين:
أوّلا: إذا كان كبار الاستراتيجيين يرددون الآن عبارة “العَالَم قرية”؛ فإن الإمام الإبراهيمي يقول: “يُوشِك أن تُصبح الكرة الأرضية دارا واحدة”.(البصائر 30/04/1951)، وشتان بين القرية وبين الدار الواحدة.
ثانيا: عُقد في القدس ـ طهّرها الله من الرّجس ـ في 03 ديسمبر 1953 مؤتمر إسلامي، وكان مما تمخض عنه تشكيل وفد يطوف حول البلدان الإسلامية لجمع المال لترميم مسجد الصخرة وزخرفته، وكان من رأي الإمام الإبراهيمي أن لا يُصرف فلسٌ إلا في شراء الأسلحة لتحرير فلسطين كلها، لأن اليهود سيبتلعونها كلها بما فيها القدس وبما فيها المسجد الأقصى ومسجد الصخرة.
لقد سمى الإمام الإبراهيمي ذلك الوفد “الوفد الصخري” نسبة إلى قبة الصخرة، وخاطب الذين فكروا في ذلك ودعوا إليه قائلا: “أيها الإخوان الصخريون، إنكم ومن أعانكم على مشروع الصخرة بالمال، أو نشطكم عليه بالرأي، لم تزيدوا على أن أحييتم في الإسلام سُنّة من سُنن المصريين القدماء في قصة عروس النيل: كانوا يُزيّنون فتاة للموت، وأنتم تُزيّنون مسجدا للهدم”. (آثار الإبراهيمي، ج 4 ص 300)، وقد صدق تنبؤ الإمام، حيث احتل اليهود الصهاينة القدس وأقصاها وصخرتها في 06 جوان 1967.
إن الألم ليعصر قلبي وأنا أرى أبناءنا في مراحل التعليم المختلفة يُحرمون من فكر الإمام الإبراهيمي النيّر، وفحولته العلمية، ولغته البديعة، ويُنشّؤون على هذا الفكر المخنث، وعلى مثل هذه “اللغة الـبَنْغَبْرِيطِيّة” التي تلعنها اللغة الإبراهيمية.