مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
غير مصنف

تمنّي العبودية..و دقائق التخصّص د/ محمد عبد النبي

05 الذي يقحم نفسه في غير ما يتقنه قد يأتي بالعجائب، حتى و إن انتمى إلى زمرة أهل العلم، إذ لكل ميدان تخصصه و رجاله، و لكل فن مبادئه و مصطلحاته، و كثير من متحدثي الإعلام يبينون عن عورات أو عثرات لا يسترها إلا أن يعتذروا أو ينزووا بعيدا عما لا يعنيهم، و بعض طلبة العلم قد يُدلي برأي في أطروحته-في شأن بعيد عن تخصصه- يَظهر فيه قصوره، لأنه لم يفهم تعبيرات القوم أو مصطلحاتهم، و رحم الله من عرف قدر نفسه، فصانها عن رذيلة الإفتاء في كل شيء !

أخرج البخاري(3/149)عن الزهري قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “للعبد المملوك الصالح أجران، والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبرّ أمي، لأحببت أن أموت وأنا مملوك.” !

أول ما يلفت النظر في الحديث أن النبي صلى الله عليه و سلم يتمنى لو مات و هو عبد مملوك، و من المعلوم أن العبودية تنافي الحرية، و تتعارض مع شرائط التكليف في المناصب الدنيوية، فضلا عن المناصب الدينية، بله منصب النبوة !حتى و لو قلنا بأن الأمر على سبيل المبالغة، لترطيب قلوب العبيد، و لتبليغ أن إخلاصهم يجلب لهم الأجر مرّتين، إذا أدوا ما عليهم في حق ربهم، و حق مواليهم.

و الحقيقة أن هذا الحديث قد اختلط فيه المرفوع بالموقوف، فالجزء الأول منه قاله النبي صلى الله عليه و سلم،  وهو قوله:” للعبد المملوك الصالح أجران” و هذا يتفق مع الترجمة التي أوردها البخاري رحمه الله حين قال:” باب العبد إذا أحسن عبادة ربه ونصح سيده .”ثم أردفها بحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم:” العبد إذا نصح سيده، وأحسن عبادة ربه:كان له أجره مرتين.” و بحديث أبي موسى الأشعري يرفعه:” أيما رجل كانت له جارية، فأدبها فأحسن تأديبها وأعتقها وتزوجها فله أجران، وأيما عبد أدى حق الله وحق مواليه فله أجران.” ثم أورد البخاري الحديث الذي يفيد تمني النبي أن يموت مملوكا، و ختم الباب بحديث أبي هريرة أيضا:” نِعم ما لأحدهم، يُحسن عبادة ربه، وينصح لسيده.”فأحاديث الباب تتناول موضوعا واحدا: هو مضاعفة الأجر للعبد عند ربه، جراء إخلاصه لسيده في العمل، و لربه في العبادة، ما يوحي بأن تمني صفة المملوك لا تتفق مع محتوى الأحاديث المرفوعة، و لذلك لم تَرِد الإشارة في ترجمة البخاري إلى هذا المعنى، بالرغم من أهميته، و ليس ذلك إلا لأن ذاك التمني هو مدرج من قول أبي هريرة رضي الله عنه، و هو فن من فنون مصطلح الحديث، عُني فيه المحدثون بتخليص ما يُرفع للنبي صلى الله عليه و سلم عما يتدخل به الراوي، صحابيا كان أو تابعيا، و مثل هذا الأمر يدل عليه محتوى المتن أو التصريح في رواية أخرى، و قد يدل عليه الأمران، كما في هذا الحديث، و قد أُشيرَ من قبل إلى أن في المتن معارضة بين العبودية و بين الحرية في منصب النبوة، و أضافوا لذلك أن أمّ النبي صلى الله عليه و سلم لم تشهد بعثته، فكيف يمنعه برّها من أن يكون مملوكا؟ !و إن وُجد من الشراح من فاته الأمر  وجهِد في التأويل، قال ابن حجر:” ظاهر هذا السياق(يقصد رواية البخاري) رفع هذه الجُمل إلى آخرها(أي نسبتها للنبي)، وعلى ذلك جرى الخطابي فقال: لِلّه أن يمتحن أنبياءه وأصفياءه بالرق، كما امتحن يوسف..”؟ ! وأضاف ابن حجر:”..   وجزم الداودي وابن بطال وغير واحد بأن ذلك مدرج من قول أبي هريرة، ويدل عليه من حيث المعنى قوله: وبرّ أمي، فإنه لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم حينئذ أمّ يبرها، و وجّهه الكرماني فقال: أراد بذلك تعليم أمته، أو أورده على سبيل فرض حياتها، أو المراد أمه التي أرضعته، وفاته التنصيص على إدراج ذلك، فقد فصله الإسماعيلي من طريق أخرى عن ابن المبارك، ولفظه: والذي نفس أبي هريرة بيده إلخ، وكذلك أخرجه الحسين بن الحسن المروزي في كتاب البر والصلة عن ابن المبارك، وكذلك أخرجه مسلم..”(فتح الباري:5/176)

و رواية مسلم أخرجها في كتابه(3/1284) عن أبي هريرة أيضا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم:” للعبد المملوك المصلح أجران، والذي نفس أبي هريرة بيده، لولا الجهاد في سبيل الله، والحج وبر أمي: لأحببت أن أموت وأنا مملوك “ قال: وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه، لصحبتها..”فتأكّد برواية الإمام مسلم أن هذا الجزء من الحديث مدرج من كلام أبي هريرة، و بأن التأويل الذي ذهب إليه الخطابي و الكرماني تأويل متكلف، و لا حاجة إليه، و إذا استشكل الأمرَ معترضٌ على صنيع البخاري أُفيد بأن الأمر مفهوم من صنيع القوم بينهم،  والروايات يفسِّر بعضها بعضا.

قال صلاح الدين العلائي في كتاب: “التنبيهات المجملة على المواضع المشكلة”(74):” فهذا الفصل الأخير مدرج في الحديث من قول أبي هريرة قطعا، ولا يجوز أن يكون من قول النبي صلى الله عليه وسلم، أو يستحيل عليه أن يتمنى كونه مملوكا، وأيضا فلم يكن له أم يبرها، وكأن البخاري لم يبين كونه من قول أبي هريرة  رضي الله عنه لظهور ذلك، وأنه لا يجوز أن يكون من تتمة قول النبي صلى الله عليه وسلم..”

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى