شكّلت دعوة وزير الخارجية السعودي تركي الفيصل نظيره الإيراني ظريف جواد إلى زيارة الرياض قصد “التفاوض” حول مجموعة من القضايا التي تشكل محور خلاف مزمن بين البلدين منذ سنوات طويلة، مفاجأة من العيار الثقيل لكل المتتبعين لشؤون المنطقة؛ إذ كان مستبعداً حدوث أيّ تقارب بين إيران والسعودية في ظل تراكم الخلافات بينهما، ووصولهما إلى حدّ قيام “حروب بالوكالة” بينهما في سوريا واليمن والعراق ولبنان ومناطق أخرى. وتفتح هذه الدعوة آفاقاً واسعة لاذابة جبل الجليد بين البلدين وإيجاد نقاط توافق تمهّد لحل صراعات عديدة في المنطقة وفي مقدّمتها جميعاً الأزمة السورية.
لم يكن أحدٌ من المتتبعين يتوقع أن يوجِّه تركي الفيصل دعوة لنظيره الإيراني لزيارة السعودية و“التفاوض” حول عدد من القضايا محل الخلاف بين البلدين، لغياب أي مؤشر يدلّ على حدوث أيّ شكل من أشكال التقارب في المدة الأخيرة، بل بالعكس، لوحظ أن هوة الخلافات بين البلدين قد توسعت أكثر من ذي قبل، ولاسيما بعد فشل مؤتمر “جنيف 2” في إيجاد تسوية سلمية للأزمة السورية منذ أشهر، وبذل السعودية جهودا مضنية لاقناع الأمريكيين بمنح صواريخ “مان باد” المتطورة المضادة للطائرات للمعارضة السورية المسلحة قصد استعادة التوازن على الأرض مع الجيش السوري بعد خسارة المعارضة العديد من المدن والمناطق الإستراتيجية آخرها حمص؛ ثالث مدينة من حيث الأهمية في سوريا، فضلاً عن بروز أنباء كثيرة عن لقاءات بين مسؤولين في المخابرات السعودية ومسؤولين صهاينة لاقناع الكيان الصهيوني بالحلول محلّ الولايات المتحدة الأمريكية وتوجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية وتدميرها، ويُضاف إلى ذلك اتساع رقعة الخلاف بين سُنة الأنبار والمالكي وتطوّرها إلى مواجهات مسلحة ضارية، واتهام الحكومة العراقية المقربة من إيران، السعودية بدعم “داعش”.
وكان المسؤولون الإيرانيون، وفي مقدمتهم الرئيس روحاني ووزير الخارجية جواد ظريف، قد أعربوا مراراً في الأشهر الأخيرة عن استعدادهم التام لزيارة السعودية وإجراء حوار معمّق معها حول مختلف القضايا محل الخلاف بين البلدين، قصد التوصّل إلى إيجاد حلول لها، أسوة بالحوار الإيراني- الأمريكي- الغربي حول الملف النووي الإيراني الذي استمر سنوات وأدى إلى توقيع اتفاق تمهيدي أبعد عن إيران شبح ضربة عسكرية أمريكية وبدأ يخفف وطأة الحصار الغربي الإقتصادي عليها. وقد أعرب روحاني عن أمله في أن تكون السعودية هي أول بلد يزوره بعد انتخابه، لكن دعوات روحاني والمسؤولين الإيرانيين لم تلق أي استجابة لدى السلطات السعودية التي قابلتها بالتجاهل إلى غاية يوم الثلاثاء 13 ماي الماضي، حيث فاجأ تركي الفيصل الجميعَ، وفي مقدّمتهم القادة الإيرانيين أنفسهم دون شك، بدعوة ظريف إلى زيارة السعودية و“التفاوض” حول مختلف القضايا التي سبّبت خلافاتٍ عميقة بين البلدين سنوات طويلة.
ويُرتقب أن يصل وزير الخارجية الإيراني في الأيام القادمة إلى الرياض في جلسة لإذابة الجليد بين الطرفين، والتمهيد لزيارة روحاني لاحقاً ومقابلة الملك السعودي، لكن بضع جلسات حوار أو “تفاوض” ليست كافية لحلّ الخلافات العميقة المتراكمة بين البلدين؛ فالسعودية تتهم إيران بدعم الحوثيين في اليمن، والوقوف وراء الثورة الشيعية في البحرين، والحؤول دون سقوط بشار الأسد في سوريا برغم ضراوة الثورة المسلحة ضده، ودعم المالكي في العراق، والسعي إلى نشر المذهب الشيعي في مختلف الدول العربية والإسلامية السنية للتغلغل فيها لاحقاً، كما تتهمها بأن برنامجها النووي موجّه ضدها وضد كل السُّنة…في حين تتهم إيران السعودية بممارسة التحريض الطائفي واستعداء مئات الملايين السُّنة ضدها، واستجلاب العدوان الأمريكي والغربي على برنامجها النووي الطموح دون وجه حق، وإثارة مخاوف غير مبرّرة ضده في نفوس الخليجيين والمسلمين السنّة، وبمعاداة الشيعة حيثما كانوا، وبرفض منح التسوية السلمية في سوريا أي فرصة للنجاح والعمل على إجهاضها في كل مرة من خلال مواصلة تزويد تنظيمات متطرفة بالمزيد من الأسلحة، وبقمع الثورة البحرينية من خلال قوات “درع الجزيرة” التي يشكّل الجنودُ السعوديون أغلبها…
ولذلك تحتاج كل هذه القضايا وغيرها إلى جلسات حوار مطولة بين المسؤولين السعوديين والإيرانيين على مختلف المستويات، ولا مناص من إسناد المهمّة إلى مجموعتي ديبلوماسيين رفيعي المستوى من الجانبين، لاجراء جلسات حوار ماراطونية لتذليل مختلف العقبات وإيجاد نقاط توافق حول مختلف المسائل، تماماً مثلما حدث في المفاوضات الإيرانية- الغربية التي دامت سنوات، لكنها كُللت في الأخير بنجاح غير منتظر.
وما دام الحوارُ بين إيران والغرب قد كُلل بالنجاح، فلن يكون مقبولاً أبداً أن تنتهي جلساتُ الحوار أو “المفاوضات” المرتقبة بين إيران والسعودية، إلى الفشل، إلا إذا كان أحدُ الطرفين غير جدي في التفاوض أو متصلباً ولا يرغب في التوصل إلى تسوية قائمة على تنازلات متبادلة.
إيران والسعودية بلدان مسلمان كبيران، تعرّضت العلاقة بينهما إلى الكثير من التشنّج والعداوة والبغضاء والصراع دون ضرورة، ولم يستفد من ذلك إلا الكيانُ الصهيوني والغرب، وحان الوقتُ الآن، لينتهي كل ذلك وتُفتح صفحة جديدة بين البلدين اللذين يشكّلان ثقلاً كبيراً في العالم الإسلامي بتزعّمهما الطائفتين السنية والشيعية.
وما دام الطرفان قد قرّرا حل خلافاتهما بالحوار والتفاوض بعد طول صراع وعداوة و“حروب بالوكالة” وحروب إعلامية ضارية.. فإنه لا يمكن إلا تثمين هذه الخطوة والتفاؤل بأن تحقق مصالحة تاريخية بين البلدين، ونعتقد أن حل الخلافات العالقة بينهما وإيجاد نقاط توافق وحلول للمسائل الخلافية سيعود عليهما وعلى المنطقة وعلى العالم الإسلامي كلِّه بالخير والفائدة، فسيمكّن أي اتفاق بينهما من حل الأزمة السورية سلمياً، وإيجاد حلول سلمية لبؤر التوتر الأخرى في لبنان واليمن والبحرين والعراق وغيرها من المناطق التي تتعرّض لخلافات طائفية تهدّد وحدتها في الصميم.