نزل الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بمصر في عام 1952 ومكث فيها عشرة سنوات لقي خلالها كل علامات التقدير والترحيب من مختلف الشخصيات والجمعيات الفاعلة باعتباره شيخ علماء الجزائر وصوتها في المشرق العربي. ولم يغادرها خلال هذه الفترة إلا من أجل جولات قام بها في عدة دول إسلامية للتعريف بإنجازات جمعية العلماء في الجزائر، وجذب إعانات مالية لمواصلة أعمالها الإصلاحية، أو للمشاركة في النشاطات العلمية والمظاهرات النضالية التي تجمع قادة الفكر والسياسة لمناقشة قضايا الساعة أو للتعبير عن مواقف مشتركة تجاه ما يحدث آنذاك في العالم العربي والإسلامي وفي مقدمة هذه الأحداث: الثورة الجزائرية والقضية الفلسطينية. وهكذا زار الشيخ الإبراهيمي القدس وباكستان والخليج والعراق والشام. أما في هذا المقال فإننا سنقتصر على استقبال مصر لهذا العالم الجزائري.
الإبراهيمي ونفحات مصر
كان الشيخ محمد البشير الإبراهيمي كغيره من العلماء الجزائريين معجبا بالحراك الفكري والأدبي والسياسي السائد في مصر . وعبّر عن ذلك في عدة مقالات نشرها في جريدة البصائر وهي من أروع ما كتب، مدافعا عنها ومبرزا فضلها على العالم العربي. كما أشاد بجامع الأزهر ودعا إلى إصلاح مناهجه حتى تتماشى مع متطلبات العصر. وكان حريصا على مراسلة الصحافة والنخبة المصرية مخاطبا ضمائرها ومذكرا بحق النصرة وواجب المساندة المعنوية التي تتمثل في التعريف بالنشاطات التي تقوم بها الجمعية في الجزائر والترويج لها في وسائل الإعلام المصرية الكثيرة. لكن صيحته لا تتجاوز حدود الجزائر، وهداياه من منشورات جمعية العلماء كسجل مؤتمرها الخامس وجريدتها البصائر تبقى في أدراج المجلات والصحف المصرية التي لا تنشر عنها خبرا للقراء.
وكان الشيخ الإبراهيمي يغتنم كل الفرص للتعبير عن غضبه من تقصير النخبة المصرية في التعريف بالثقافة الجزائرية، فها هو يخاطب الفرقة المسرحية المصرية التي زارت الجزائر في عام 1951 معاتبا الأدباء والمثقفين المصريين الذين تخلوا عن الجزائر كأنها ليست عضوا في الجسد العربي. وسيسعى جاهدا وهو مقيم في مصر فيما بعد على تغيير هذه الذهنيات بالاتصال بأهل الرأي واستقبالهم في مكتب جمعية العلماء في القاهرة، وإلقاء المحاضرات في المراكز الثقافية والأندية الفكرية وحشد الدعم للقضية الجزائرية ومناصرة الثورة التحريرية.
محاضرات ولقاءات
كان الشيخ محمد البشير الإبراهيمي على صلة قوية بالجمعيات الفاعلة في الحياة الثقافية والدينية في مصر وكان من أبرزها جماعة الإخوان المسلمين التي احتك بقادتها مباشرة بعد هجرته إلى مصر بمساعدة صديقه الأستاذ الفضيل الورتلاني. وقدم عدة محاضرات في مركزها العام. كما اتصل بجمعية الشبان المسلمين وألقى في رحابها عدة محاضرات نالت أصداء واسعة في مصر. كما تعرف خلال سنواته المصرية على عدد كبير من رجال العلم والأدب والسياسة من مختلف الدول العربية والإسلامية، ذلك أن مصر كانت في الخمسينات قبلة لكل أحرار العرب والمسلمين.
وبالإضافة إلى المحاضرات واللقاءات كان للشيخ الإبراهيمي حضور في الإعلام المصري بمقالاته في الجرائد كالأهرام، والمجلات الثقافية الشهيرة كالرسالة للأستاذ أحمد حسن الزيات والمسلمون للدكتور سعيد رمضان والدعوة للأستاذ صالح عشماوي، الهلال لمؤسسها جورجي زيدان…الخ.
وتوجت هذه الشبكة من العلاقات بتأسيس “ندوة الأصفياء” تضم صفوة من العلماء والأدباء والشعراء، أذكر منهم: المفتي أمين الحسيني، العالم الأزهري الشيخ محمد عبد اللطيف دراز، الكاتب أحمد حسن الزيات، الأديب كامل الكيلاني، الشاعر اللبناني علي الحوماني، العقيد الفلسطيني عبد الله التل، وعالم الاجتماع الدكتور علي عبد الواحد وافي…الخ. وكان هؤلاء يجتمعون مرة في كل أسبوع في أحد بيوت أعضائها يقدم واحد منهم بحثا في قضية فلسفية أو أدبية أو سياسية ثم يناقشها الجميع بشكل مستفيض. وتستمر المناقشات ساعات طويلة من الليل. وقدم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي خلال هذه الندوة مداخلة عنوانها: ” مشكلة العروبة في الجزائر”.
وكانت العديد من الشخصيات العلمية تتردد على مجلس الشيخ الإبراهيمي وتحضر محاضراته وترافقه في تنقلاته تقديرا لعلمه وإعجابا بشخصيته أذكر منهم: العالم الأزهري الدكتور أحمد الشرباصي العضو الناشط في جمعية الشبان المسلمين، والأديب المعروف كامل الكيلاني، والمفكر سيد قطب الذي بادر إلى نشر 3 مقالات في جريدة البصائر الجزائرية، والقائد الفلسطيني عبد الله التل. فيقول هذا الأخير في مقال رائع عن الشيخ الإبراهيمي: ” وفي السنوات التي قضاها الإبراهيمي في مصر، سعدت بأن أكون من تلاميذه الذين نهلوا من غزير علمه وقبسوا من كريم أخلاقه. عرفته في أطوار متباينة من مر الحياة وحلوها. وأشهد بأنه كان على الدوام ذلك الإمام العملاق الذي لا تهزه احداث الحياة ولا تفت في عضده او تنال من عزيمته وقوة إيمانه.”
في ضيافة الضباط الأحرار
رحب الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بالتغيير في مصر بعد أن قام الضباط الأحرار بالانقلاب العسكري على الملك فاروق وتأسيس جمهورية في البلاد بقيادة الرئيس محمد نجيب ورئيس الحكومة جمال عبد الناصر.
واستقبل المنتصرون الشيخ محمد البشير الإبراهيمي حينما زار القاهرة وأكرموا مثواه خاصة من طرف الجنرال محمد نجيب الذي وصفه الإبراهيمي في مقال نشره في مجلة الرسالة المصرية بـ “القائد الشعبي العظيم”.
وكانت من أهم زياراته للرئيس جمال عبد الناصر تلك الزيارة التي رافقه فيها الأستاذ الفضيل الورتلاني والشيخ العربي التبسي وأحمد بوشمال القادمان من الجزائر. وكان من دوافع هذا اللقاء تقديم منح للطلبة الجزائريين المتخرجين من معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة. وقد تحقق ذلك للوفد بعد أن وافق جمال عبد الناصر على قبول 100 طالب جزائري في المعاهد والجامعات المصرية على نفقة الحكومة المصرية.
وقد عرفت هذه العلاقة توترا بداية من عام 1954 بعد أن وقع التصادم بين الحكومة المصرية وجماعة الإخوان المسلمين واعتبار القادة المصريين الشيخ الإبراهيمي مناصرا لهذه الحركة. وتفاقم الاختلاف بين الإبراهيمي وممثلي الثورة الجزائرية في القاهرة لاختلاف الرؤى. وقد عاش الإبراهيمي فترات حرجة بسبب هذه المضايقات ولم يخفف عنه إلا خروجه من مصر وتجواله في بعض البلدان العربية.
مع الخالدين في مجمع اللغة العربية
انتخب الشيخ محمد البشير الإبراهيمي عضوا مراسلا في مجمع اللغة العربية في عام 1961 بترشيح من الدكتور إبراهيم مدكور. وكان هذا الاختيار مبنيا على عدة اعتبارات علمية خلاصتها “غزارة علمه، وسعة حفظه ودقة فهمه لآداب العرب بجميع فنونها من شعر، ونثر، وأمثال وأيام وأنساب وتاريخ”.
وقد اختير الشيخ الإبراهيمي ضمن احد عشر عضوا عينوا من الأقطار العربية ومنهم: محمد الفاضل بن عاشور تونس، عبد الله كنون من المغرب، محمد بهجة الأثري من العراق…الخ. وقد ناب عنهم في الكلمة التي ألقاها في جلسة افتتاح مؤتمر الدورة الثامنة والعشرين. غير أنه لم يحضر إلا مؤتمرا واحدا إذ عاد في عام 1962 إلى الجزائر ثم قعد به المرض. وقدم في ذلك المؤتمر بحثا عنوانه ” ابن خلكان وفن الترجمة”.
وبقي عضوا في هذا المجمع إلى أن توفي في عام 1965. وقبل وفاته، أرسل الشيخ الإبراهيمي رسالة إلى المجمع فيها شكوى وذكريات ووداع. وأقام مجمع اللغة العربية حفلة تأبين تخليدا لذكراه، وتقديرا له.
وقد خلفه في كرسيه بالمجمع في عام 1968 الأستاذ أحمد توفيق المدني الذي شعر بعظمة الموقف وثقل المسؤولية مما دفعه إلى الاعتراف بذلك في خطابه الذي ألقاه في حفل استقباله بمجمع اللغة العربية قائلا: ” إنه لما يزيد من حرجي ومن ارتباكي أنني أستوي على مقعد قد ملأه قبلي عملاق من عمالقة العلم والأدب والتفكير، والجهاد الحق في سبيل الإسلام والعروبة والوطن الكبير، ألا وهو العلامة العظيم فقيدنا العبقري الملهم، محمد البشير الإبراهيمي رضي الله عنه.” وشاءت الأقدار أن يخلف الأستاذ المدني في عام 1984 نجل الشيخ الإبراهيمي الدكتور أحمد طالب.
وأحبت أن أختم هذا المقال بهذه الكلمات المعبرة التي اقتبستها من كلمة تأبين الدكتور إبراهيم مدكور رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة للشيخ محمد البشير الإبراهيمي غداة وفاته: ” نجتمع اليوم لنؤبن شيخا من شيوخ الإسلام، وعلما من أعلام النهضة الجزائرية. فقدنا فيه أديبا بليغا، ومربيا كبيرا، ومصلحا عظيما، ومجاهدا مؤمنا قضى في وطنه ثلاثين عاما أو يزيد في خدمة الدين واللغة، فأحيا معالم القومية، وأعد جيلا من المكافحين والمناضلين، ومهد السبيل لاستعادة الاستقلال والحرية، أحب المجمع واتصل به منذ زمن، وعد من أصدقائه الأوفياء”.