مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
الإمام محمد البشير الإبراهيمي

الشيخ الإبراهيمي وثورة التحرير أ.عبد القادر قــــلاتي

GUELATIعندما وصل العلاّمة محمد البشير الإبراهيمي إلى القاهرة -قبلة الحركات الإصلاحية والوطنية، وملتقى صفوة العلماء والمفكرين من العرب والعجم- في مارس من عام 1952م ، كانت سمعته العلمية والسياسية قد سبقته عن طريق جرائد الجمعية وعن طريق الطلاب الذين التحقوا بالمعاهد العلمية، كما كانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ملء السمع والبصر -كما يقال- في العالم الإسلامي، فحركات الإصلاح وفي مقدمهم حركة الإخوان المسلمين في مصر، والجماعة الإسلامية في باكستان، كانت تنظر إلى الشيخ و إلى الجزائر وجمعيتها الرائدة، نظرة إجلال وتقدير واحترام. 

فبمجرد وصول الشيخ إلى القاهرة، كانت دعوات المشاركة في إلقاء المحاضرات والندوات العلمية، والاستقبال الذي يليق بالشيخ وبمكانته السامقة عند أهل العلم والفكر والسياسة، فكانت محاضراته وخطبه تأخذ بالألباب، وتدفع العالمِ قبل المتعلم بالإعجاب، فهو لعمري آية من آيات الله الباهرة.فقد كان الشيخ أينما حلّ ترك أثراً بالغاً في مستمعيه، وصورة مشرقة لنموذج العالم العامل، والمصلح المتفاني في خدمة قضيته المركزية، وهي قضية الأمة بمجموعها قبل قضية بلاده التي أهلكها الاستعمار الغربي الحاقد، وكاد يقضي على هويتها وانتمائها الحضاري، لو لا أنّ الله -سبحانه وتعالى- قيّظ لها نموذج خالدة من طراز الإبراهيمي، وابن باديس، والعقبي، والتبسي وغيرهم من علماء الجمعية الذين وهبوا حياتهم للجزائر والإسلام والعربية.

لم يكن خروج الشيخ من الجزائر هروباً من معركة بلاده مع المشروع الاستعماري الغربي وهو أحد الذين نازلوا فيها طويلاً، وكانوا من صناعها، بل كانت رحلات الشيخ استكمالاً لتحقيق النّصر في هذه المعركة، وتمكيناً لأبناء الجزائر من تحقيق الكفاية العلمية والمقدرة السياسية، لإدارة بلادهم بعد تحقيق الاستقلال التّام عن الكيان الاستعماري الغاشم، نعم لقد كانت جمعية العلماء المسلمين ترسم الخطى بدراية تامة نحو استقلال الجزائر، فكان خروج الشيخ إلى البلاد العربية والإسلامية، تجسيداً واضحاً لهذا الهدف الكبير، ففي مقال الشيخ الشهيرتحية غائب كالآيب تصوير رائع لمهمته التي خرج من أجلها، وإيضاح لا يحتاج إلى دليل يقول الشيخ مخاطباً وطنه الجريح: “..وأما فراقك فشدة يعقبها الفرج…فلا يهولنّك فراغك مني أياماً، فعسى أن يكون المسك ختاماً، وعسى أن تسعد بآثار غيبتي أعواماً”، وقد تتضح الصورة أكثر، عندما نتابع نشاطات الشيخ ولقاءاته مع رجالات السياسة والنّضال التحرري، في أغلب البلاد التي قدّر للشيخ أن يزورها، في مصر وباكستان والعراق والكويت، ودمشق وعمّان والحجاز.

لم تكن مهمة الشيخ البشير الإبراهيمي، مهمة فردية اقتضاها وضعه كإمام وداعية وسياسي، بل كانت كلّ جهوده تصب في خطة رسمتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، لتحرير الجزائر، فكان الشيخ يسير وفق هذه الخطة، وقد أدّى هذه الوظيفة باقتدار منقطع النّظير، فبالرغم من سنّ الشيخ إلاّ أنهّ كان لا يتوقف من سفر إلاّ ويواصل آخر، فقد عرفته منتديات مصر، ومقرات أحزابها، كما عرفته السفارات المعتمدة فيها، كلّ ذلك والشيخ يحمل قضية بلاده وأمته، وينافح عنها بما منحه الله سبحانه وتعالى من مواهب قلّما تجتمع في فرد، ولم تكن قضية الجزائر وحدها من يشغل بال الشيخ، بل كلّ قضايا الأمة، فنراه يعبر عن هذه الحالة في مقاله”في الموصل قائلاً: “إنّ السبب الأكبر لرحلتي هذه بعد الدراسة والتعارف هو السعي في إحياء الجامعة الإسلامية التي هي خير ما يجتمع عليه الشرق وأممه وملله”.

وعندما قامت ثورة التحرير كان الشيخ أول من احتضنها وأيدها من زعماء الحركة الوطنية، ذلك أنّ الشيخ كان قد تنبّأ بهذه الثورة بعد أحداث الثامن من ماي عام 1945م عندما قال: “إنّها فورة ستعقبها ثورة “، وقال في خطاب ألقاه في باريس بمناسبة نيل ليبيا الاستقلال عام 1951: “إنّ الجزائر ستقوم قريباً بما يدهشكم من تضحيات وبطولات في سبيل نيل استقلالها، وإبراز شخصيتها العربيّة الإسلاميّة “ نقله ممثّل العراق لدى الأمّم المتّحدة، وقال في خطاب –أيضاً- أمام الوفود العربية عام 1952 بباريس:” وإنّ بعد اللّسان لخطيباً صامتاً هو السّنان، وإنّنا لرجال وإنّنا لأبناء رجال وإنّنا لأحفاد رجال .. وإنّ فينا لقطرات من دماء أولئك الجدود، وإنّ فينا لبقايا مدّخرة سيجلّيها الله إلى حين “.

في يوم 2 نوفمبر أصدر الشيخان الإبراهيمي والفضيل الورتيلاني بالقاهرة بياناً بعنوان:مبادئ الثورة في الجزائر نشر في الصحافة المصرية، جاء فيه:

” ثمّ قرأنا اليوم في الجرائد بعضَ تفصيل ما أجملته الإذاعات، فخفقت القلوب لذكرى الجهاد الّذي لو قُسِّمت فرائضه لكان للجزائر منه حظّان بالفرض والتّعصيب، واهتزّت النّفوس طرباً لهذه البداية الّتي سيكون لها ما بعدها، ثمّ طرقنا الأسى لأن تكون تلك الشجاعة الّتي هي مضرب المثل لا يظاهرها سلاح، وتلك الجموع الّتي هي روق الأمل لا يقودها سلاح، إنّ اللّحن الّذي يشجي الجزائري هو قعقعة الحديد في معمعة الوغى، وإنّ الرائحة الّتي تعطر مشامه هي رائحة هذه المادّة الّتي يسمّنوها البارود “.

ثم صدر بيان آخر عنهما يوم 3 نوفمبر بعنوانه:إلى الثائرين الأبطال من أبناء الجزائر اليوم حياة أو موت، بقاء أو فناء جاء في مطلعه:

” حيّاكم الله أيّها الثّائرون الأبطال، وبارك جهادكم وأمدّكم بنصره وتوفيقه، وكتب ميّتكم في الشّهداء الأبرار، وحيّكم في عباده الأحرار.

لقد أثبتُّم بثورتِكم المقدّسة عدّة حقائق: الأولى أنّكم سفّهتم دعوى فرنسا المفترية الّتي تزعم أنّ الجزائر راضية مطمئنّة، فأريتمُوها أنّ الرّضا بالاستعمار كفر، وأنّ الاطمئنان لحكمها ذلّ، وأنّ الثورة على ظلمها فرض …”.

وجاء في آخره:” اعلموا أنّ الجهاد للخلاص من هذا الاستعباد قد أصبح اليومَ واجباً عامّاً مقدّساً فرضه عليكم دينُكم، وفرضته عليكم قوميّتكم، وفرضته رجولتُكم، وفرضه ظلم الاستعمار الغاشم الّذي شملكم، ثمّ فرضته أخيرا مصلحة بقائكم؛ لأنّكم اليوم أمام أمرين: إمّا حياة أو موت، إمّا بقاء كريم، أو فناء شريف” .

وفي 15 نوفمبر صدر بيان آخر عنهما عنوانه:” نداء إلى الشّعب الجزائري المجاهد نعيذكم بالله أن تتراجعوا ” وجاء:

” حيّاكم الله وأحياكم، وأحيا بكم الجزائر، وجعل منكم نوراً يمشي من بين يديها ومن خلفها، هذا هو الصّوت الّذي يُسمع الآذان الصمّ، هذا هو الدّواء الّذي يفتح الأعين المغمّضة، هذه هي اللّغة الّتي تنفذ معانيها إلى الأذهان البليدة، وهذا هو المنطلق الّذي يقوِّم القلوب الغلف، وهذا هو الشعاع الّذي يخترق الحجب والأوهام “.

وجاء فيه:” إنّكم كتبتم البسملة بالدّماء في صفحة الجهاد الطّويلة العريضة، فاملؤوها بآيات البطولة الّتي هي شعاركم في التّاريخ، وهي إرث العروبة والإسلام فيكم …

أيّها الإخوة الأحرار، هلّموا إلى الكفاح المسلّح، إنّنا كلّما ذكرنا ما فعلت فرنسا بالدّين الإسلامي في الجزائر، وذكرنا فظائعها في معاملة المسلمين – لا لشيء إلاّ لأنّهم مسلمون -، كلّما ذكرنا ذلك احتقرنا أنفسنا واحتقرنا المسلمين وخجلنا من الله أن يرانا ويراهم مقصّرين في الجهاد لإعلاء كلمته، وكلّما استعرضنا الواجبات وجدنا أوجبها وألزمها في أعناقنا إنّما هو الكفاح المسلّح..”

هذه بعض من صور الجهاد والنّضال الذي قاده الإبراهيمي وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، تظهر لكلّ ذي بصيرة الدور الخالد الذي ينكره كلّ من طمس الله بصيرته، وجحد وأنكر معلوماً من الحقيقة والتاريخ بالضرورة، وزوّر وكتب إرضاء لفرنسا ولمشروعها الخبيث، الذي لولا الإبراهيمي وأصحابه من علماء الجزائر لما اندحر على عتبات هذه الأرض الأصلية التي علمنا الإبراهيمي وابن باديس كيف نحييها، وكيف نحيا فيها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى