في تسجيلٍ مصوّر بالفيديو، ظهر أبو بكر شيكو، زعيم جماعة “بوكو حرام” النيجيرية، في قناة “سي أن أن” الأمريكية مؤخراً، وتحدّث مدة 57 دقيقة، تبنى فيها اختطاف 276 فتاة من مدرسة أجنبية بنيجيريا في 14 أفريل الماضي، واعتزامه بيع 223 منهن في سوق النخاسة كجواري، ووفقا للشريعة الإسلامية، على حدّ زعمه، علماً أن 53 فتاة تمكنّ من الفرار من أيدي خاطفيهن، وردد أبو بكر أطروحات جماعته الرافضة للتعليم الغربي، وبخاصة تعليم الفتيات. وبعدها خطفت الجماعة 11 فتاة أخرى، وهددت ببيعهن كلهن بأسعار بخسة لا تتجاوز 12 دولاراً للفتاة الواحدة.
شكّل اعترافُ رئيس الجماعة المقربة من “القاعدة” باختطاف مئات الفتيات من مدرسةٍ أجنبية بمنطقة “بورنو” المسلمة في شمال نيجيريا، الشهر الماضي والتهديد بعرضهن لاحقاً للبيع كالجواري في سوق النخاسة، صدمة كبيرة للرأي العالم العالمي، لأنه أسلوبٌ غير مسبوق في التعامل مع الأسرى والمخطوفين الذين كان خاطفوهم يطالبون بمبالغ مالية يحدّدونها بأنفسهم كفديات مقابل إطلاق سراحهم، وقد اعتمدت مختلف الجماعات السلفية الجهادية، وفي مقدّمتها “القاعدة” بشتى الدول، هذا الأسلوب بشكل مكثف في السنوات الأخيرة بغية تمويل نشاطاتها الإرهابية والحصول على أسلحة أكثر تطوّرا وفتكا.
أما جماعة “بوكو حرام” التي ظهرت في نيجيريا قبل خمس سنوات وقامت بمئات العمليات الدموية التي خلفت آلاف الأرواح واستهدفت الكنائس والمدارس وأهدافاً عسكرية وغيرها، فقد بدأت تتجه لاختطاف الفتيات من المدارس والإعلان عن بيعهن وهذا في إطار مواصلة حربها على التعليم الغربي، وقال زعيمُ الجماعة في شريط الفيديو إن هذا التعليم “يجب أن يتوقف” بنيجيريا، علماً أن اسم الجماعة نفسه يعني “التعليم الغربي حرام”.
ويعتقد أبو بكر شيكو أن سلوكه هذا نابعٌ من تعاليم الإسلام، فقد قال في الشريط إن “الله أمرني ببيع هؤلاء الفتيات، وسأبيعهن وفق شرع الله؟” وهو زعمٌ كاذب، فمتى أمر اللهُ تعالى المسلمين باختطاف بنات الآمنين وبيعهن كإماء وجواري؟
هذه الجريمة الشنيعة بحقّ فتيات مستضعفات، تشكّل إساءة بليغة للإسلام وتمنح للإعلام الصهيوني والغربي فرصة أخرى لتشويه صورته أكثر وأكثر ومواصلة حملات الكراهية والتحريض ضده، ومواصلة التهجم على المسلمين جميعاً دون تمييز وإظهارهم بمظهر الهمج المتوحشين، ما يعني تفاقم “الاسلاموفوبيا” في الغرب وتصاعد اضطهاد المسلمين هناك بجريرة بعض السفهاء منهم.
المعروف أن القوانين المعاصرة قد حرّمت الرقّ والعبودية منذ أكثر من قرنين على مستوى العالم كله، وامتثل العالمُ الإسلامي لذلك بسهولة ويُسر وتكيّفَ مع الوضع الجديد بسرعة، لأن الإسلام يشجّع على تحرير الرق ويعتبر ذلك جزءاً من العبادات والكفارات، بل إن تحرير رقبة مقدّمٌ على صيام أيام الكثير من الكفارات، وقد وردت الكثيرُ من الآيات والأحاديث التي تحث على تحرير العبيد والإماء، ومساواتهم مع باقي المؤمنين، وتعتبره إحساناً وقربى إلى الله، وكان ذلك أحد أسباب اعتناق الكثير منهم للإسلام، فكيف يسمح بعض المسلمين الآن أنفسهم بأن يختطفوا بنات الناس وهنّ يتلقين التعليم في مدارسهن آمنات مطمئنات، ثم يزعم قائدُهم أن “الله أمره بذلك؟” و“أنه يفعل ذلك وفقاً للشريعة الإسلامية؟” هل لهذه الجماعة شريعة أخرى غير التي نعرفها؟
المثير للغرابة أكثر في المسألة هو قيام أمّهات الفتيات المختطَفات بمظاهرة حملت مطلبا واحدا وهو إطلاق سراح بناتهن وإعادتهن لهن، وكانت هؤلاء الأمهات يرتدين الحجاب الشرعي، ما يعني أن هذه الجماعة “الإسلامية” اختطفت فتياتٍ مسلمات، وليس بنات النصارى أو أتباع الديانات الوثنية بنيجيريا كما كان يُعتقد، وفد فعلت ذلك انتقاماً من تلقيهن تعليماً غربياً في مدرسةٍ أجنبية بنيجيريا، في حين تحرّم جماعة “بوكو حرام” ذلك، فهل يعقل أن يقدم المسلم على اختطاف أخته المسلمة وبيعها في سوق النخاسة كأمَة انتقاماً منها؟ ما لو اشترى هؤلاء الفتياتِ نصارى أو أتباعُ ديانات وثنية وحوّلوهن عن الإسلام؟ وهل نسي هؤلاء قول الرسول صلى الله عليه وسلم “ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنتُ خصمه خصمته… ومنهم: ورجلٌ باع حرا وأكل ثمنه”؟
إنه انحرافٌ خطير عن تعاليم ديننا الحنيف، وفهمٌ قاصر ومتخلّف لأحكامه السمحاء، وتأويلٌ مغرض لها، وعودة إلى قرون خلت وتجاوزها الزمن، فهل يُعقل أن نعود إلى عهد الرق والعبودية في القرن الواحد والعشرين؟
في السنوات الماضية كنا نسمع بانتشار الرقّ الأبيض في أوربا والمتاجرة بأجساد بنات مختلف دول العالم في القارة العجوز، وكان الأمرُ مفهوماً؛ فالعصابات الدولية التي تفعل ذلك “لا دين لها ولا ملة” كما يُقال، بل تتكون من مجموعة مجرمين منحرفين لا همّ لهم إلا المال، أما أن تحدث أشياء مشابهة في بعض البلدان الإسلامية وبإشراف جماعات تنتمي إلى هذا الدين الحنيف، فالأمر غير مقبول على الإطلاق، وهي إساءة عظيمة إليه، وستنفّر بدون شك شعوب العالم منه، وستتحمل “بوكو حرام” مسؤولية هذا التنفير أمام الله.
ثم من قال إن التعليم الغربي حرامٌ والحالُ انه أوصل الغربَ إلى تحقيق تقدّم علمي وتيكنولوجي رهيب سيطر به على العالم أجمع؟ وماذا تقول جماعة “بوكو حرام” في قول الرسول صلى الله عليه وسلم “اطلبوا العلم ولو في الصين؟”.. هل كانت الصين الوثنية تدرّس أحكامَ الشريعة الإسلامية والحديث والفقه والتفسير حينما صدر هذا الحديثُ الشريف؟ وأخيراً: متى استعبدتم الناسَ وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ قالها عمر بسبب ضرب ابن قبطي؛ الضرب فقط وليس الاستعباد، فماذا يمكن أن نقول نحن في استعباد بنات المسلمين وبيعهن في سوق النخاسة كالإماء وبأبخس الأثمان؟.