مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
حوارات

حوار مُطوّل مع المربي الكبير والأستاذ النحرير سي أحمد الوالي. حاوره: البشير بوكثير

%d8%a7%d9%84%d8%b4%d9%8a%d8%ae-%d8%a3%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%8a-1

علاقة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بالشيخ السعيد بن العيساوي -رحمهما الله- كانت علاقة وطيدة ومتينة عكس ما أشيع والأدلة سأرويها لك بالتفصيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يشعّ وجهُه بِشرا ونورا، وتحتدم جوانبه غيرة ووفاء وسرورا، وفاءً لمَن قضوا شهداءَ في سبيل الله من رفقاء دربه في مسيرة حفظ كتاب ربّه، وغيرةً على هذا الوطن المفدّى الذي قصّر جيلهم – كما قال- في حقّه، وسرورا بما أنجز وعمل وأدّى من واجب رغم ضعف الإمكانات وقلّة ذات اليد. أمّا أنا فأخذتني الدّهشة لذاكرته العجيبة التي لا تزال تحتفظ بأدقّ التفاصيل والأحداث وكأنّها شريط سينمائي ماثل أمام عينيّ وهو يرويها بأسلوبه السهل الممتنع، وبارتجالية سلسة لا نشوز فيها ولاعوج، وسأحمد الله تعالى بكرة وعشيا على أنْ هيّأ لي أسباب لقاء هذا الأستاذ الفهّامة الذي لا يزال ثابتا على الحقّ وملازما لدرب شيوخه وأصحابه أولي الإخلاص والصّدق، فهو يُحدّثك عن شيوخه الميامين بـحُبّ وحسرة وأنين، حُبّ لأنّهم قضوا أصفياء أنقياء أتقياء، ومضوا إلى بارئهم وما بدّلـوا تبديلا، وحسرة وحنين لأنّ هؤلاء العظماء لم ينالوا حقّهم من الاهتمام والرعاية بعد الاستقلال لذا بقيت مآثرهم مدفونة ومطمورة لا يعلم عنها هذا الجيل إلاّ القليل.
لا أطيل عليك أخي القارئ لأتركك تكتشف بنفسك لآلئ ودُرَر ونفائسَ شخصيةِ ضيفنا الأستاذ الكبير سي أحمد الوالي في هذه المؤانسة الفكرية والتاريخية الحميمية انطلاقا من رحلته الروحية مع حفظ كتاب الله، وانتهاء بأريج وعبَق دهاقنة المنطقة وجهابذتها الأفذاذ الذين وصل صيتهم المشارق والمغارب..
أتركك قارئي الحبيب مع شيخ الحفّاظ الماهرين، وصفوةِ الأساتذة العاملين، وبقيّةٍ صالحة من العلماء الربّانيين، سيدي “أحمد الوالي”، جعلنا وإياه على سرر متقابلين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – نبذة تعريفية عن حياتكم العلمية المليئة بالأشواك والمعيقات، والثريّة بالتحديات والإنجازات .
* أنا العبد الضعيف أحمد الوالي بن لمنور بن لقريشي بن الحاج المحفوظ، ولدت يوم 22 فيفري سنة 1928م بقرية تيطست بمدينة رأس الوادي ولاية برج بوعريريج، نشأت في أسرة متوسطة الحال كسائر الجزائريين في تلك الفترة الحالكة من تاريخنا تحت نير الاستدمار الفرنسي. كانت أسرتي محافظة متدينة، يسري فيها الدين من الجَـدّ إلى الولد ويحيط بها كما يحيط السوار باليد، فوالدي رحمه الله من حفظة كتاب الله، درس في زاوية الشيخ ابن العيساوي حين كانت متواجدة بطوملة..درس فيها بمعيّة رفيـقِ دربه وبطين قلبه سي العياشي حلقوم طيّب الله ثراه. عدد إخوتي ستّة: خمسة ذكور وأخت واحدة تغمّدها الله بشآبيب رحمته.
أما عن ظروف التنشئة فهي مشابهة بل متطابقة مع ظروف السواد الأعظم من الشعب الجزائري، فقــرٌ وحرمان من أبسط حقوق العيش الكريم، وسياسةٌ تمييزية عنصرية من أهمّ عناوينها التفقير الشديد والتجهيل الممنهج بقوّة الحديد، حتى لا يتسنى لشعبنا الحرّ الأبيّ العتيد النهوض والحلم بمستقبل مشرق جديد والانعتاق من نير استعمارٍ استيطانيّ لا يرحم الشيخَ ولا الوليد. فلاغروَ إذن أن تكون مسيرتي التعلّمية صعبة وقاسية ومليئة بالمعيقات والأشواك مثل غالبية الجزائريين لاسيما إذا كان دخلُ الوالد محدودا جدّا بحُكم عدم امتلاكه لقطعة أرض أو تجارة.
2 – هل لك سيدي أن تسرد علينا مسيرتك المُشْرقة مع حفظ كتاب الله وبداية البدايات مع أنوار الآيات والكلمات؟
* تعلمت أسماءَ الحروف الهجائية ورسمَها وأسماءَ الحركات على يد سي محمد الطيب بونازو رحمه الله في بيته، ثم انتقلت إلى المسجد العتيق (الزاوية) أين تعلمت القرآن الكريم على يد سي أحمد الوالي بن جدو إمام الصلوات الخمس (وهو شقيق الإمام المعروف سي الرزقي) وقد استشهد معلّمي بن جدو سنة 1958م رحمة الله عليه، كان دمث الأخلاق نقيّ السريرة مخلصا لرسالته حيث لم نسمع منه طيلة تعليمه لنا كلاما بذيئا أو جارحا أو عنيفا بل كانت شمائله وفضائله عنوانا لشخصيته الوديعة والصارمة المنضبطة في الوقت نفسه، ومن طرائقه التربوية الفريدة أنّه دأبَ على تعويدنا أنّه بمجرّد أن نسمع الأذان نتوضأ ونرجع إلى حجرة القراءة ونحمل الألواح ونشرع في الحفظ باعتبار هذه الفترة الروحية مصفاة للذهن ومفتاحا للحفظ والترسيخ، وبالمداومة والمثابرة عليه وفّقني الله تعالى إلى ختمه وحفظه رفقة مجموعة من أترابي وأحبابي أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الرزقي الوالي، علي الوالي، محمد الوالي، بلقاسم الوالي، عثمان قيدوم، المبروك شريفي، العربي مدور، رابح حمداني، محمد مقصود..
وقد أعدتُ القرآن الكريم على يد شيخي سي الطاهر بن المدني الزغبي رحمه الله، هذا الشيخ الجليل كان له رواتب بعد صلاة المغرب وقبل صلاة الفجر، كان قبل الفجر يُصلّي بحزبين وبعد المغرب أيضا يصلّي بحزبين، وسي الطاهر هذا ترك ابنتيْن إحداهما هي زوجة أحمد لوعيل رحمه الله، والأخرى تزوجت المربي والمعلم ساعد سعد سعود الذي صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها في ليلة من ليالي رمضان المبارك.
3 – كيف كان شعورك بعد ختم كتاب الله؟
* لقد سألتَني عن لحظة تاريخية فارقة في حياتي، وسعادةٍ عارمة غمرتْ كياني كلَّه، وفرحةٍ عظيمة لا يمكن تصويرها والتعبير عنها، وشرفٍ كبير لا يدانيه أيّ شرف، وهِــبةٍ إلهية نزلت عليّ من السّماء، أحمد الله تعالى عليها ثمّ أدين بالفضل بعدها لوالديّ الكريميْن ولشيوخي الميامين، لأنّ حافظ القرآن في زمننا كانت له مكانة لا تضاهيها مكانة أخرى باعتباره مبلغ العلم بل ذروته وسنامه، لذلك حرصت العائلات الجزائرية آنذاك على إقامة وليمة كبيرة يحضرها الشيوخ والأقارب وأفراد الأسرة ابتهاجا بهذا الحدث التاريخي في مسيرة الحافظ لكتاب الله.
4 – كيف كانت تتم طريقة التحفيظ في زمنكم حتّى يتسنّى للجيل الجديد التعرف على نـــزر يسير من كفاحكم وصبركم على مشقّة التعلّم في تلك الظروف الصعبة التي تندكّ لهولها الجبال وتتقطع لها نياط الجِمال؟
* رغم صعوبات التنقل والافتقار إلى الإمكانات المادية إلاّ أنّ علو الهمّة والطموح لنيل أعلى المراتب جعلت جيلَنا يُقبل على التعلّم إقبالَ النحل على الرّحيق ليصنع أشهى العسل، ولله درّ المتنبي حين قال بيته المشهور :
وإذا كانت النفوس كبارا * تعبت في مُــرادها الأجسام
وإليك باختصار طريقة التحفيظ السائدة آنذاك :
– بعد تعلم الحروف الهجائية وحفظ قصار السور يتم الانتقال إلى السور الطويلة، حيث يملي الشيخ علينا ونحن نكتب، كل واحد يكتب سورة أو آية معينة، ثم يقوم الشيخ بتجويد الآيات وفق أحكام القراءة لتترسخ في أذهاننا مَلكة الحفظ والقراءة الجيدة وفق الأحكام، وهنا لابد أن أشير إلى المساعدة الجليلة التي قدمها لنا الشيخ سي علي بن عبد الوهاب خبابة الذي كان يعمل متطوعا وكنّا نعرض عليه الحزبين الأخيرين. رحمه الله وجزاه الله خيرا .
كما أخبرك بأنّي درستُ الفقه على يد الشيخ العلاّمة خريج جامع الزيتونة الميمونة والأشهر من نار على علَم سيدي أحمد عاشور رحمه الله الذي نال شهادة التطويع والتحصيل بعد قرابة سبع سنوات، وهي شهادة تعادل اليوم شهادتيْ الليسانس أو الماجستير، وقد درست عنده بعد عودتي مباشرة من المدرسة الكتانية بقسنطينة.
5 – وكيف كانت رحلتك التكوينية العلمية بالمدرسة الكتانية بقسنطينة؟
* ذهبت إلى المدرسة الكتانية بقسنطينة وعمري 22 سنة، وكان مديرها آنذاك سي الطيب كعبش من الصالح باي بعين ولمان وقد سبقني إليها سي مسعد مولاي وأربعة من أولاد سي أحمد أكبرهم سي المدني، درست عاما واحدا ولم أكمل العام الثاني نظرا لظروفي المادية الصعبة، حيث عدت إلى مدينة رأس الوادي. وفي سنة 1951م التحقت بمدرسة التهذيب التي كان يشرف عليها الشيخ أحمد عاشور رحمه الله، حتى سنة 1956م أين أغلق المستعمر الفرنسي المدرسة وتم سجن الشيخ .
6 – هل تذكرون حادثة مؤثرة وقعت لكم مع الشيخ المجاهد أحمد عاشور رحمه الله؟
* كل لحظة قضيناها مع هذا العلَم الرّاسخ والجبل الشامخ إلا وكانت منقوشة في أذهاننا نحن تلامذتَه ومريديه، وممّا رسخ في ذهني معاملته الحسنة لتلامذته حيث كان يشرف في أحيان كثيرة على دعوتنا كل يوم أربعاء في مقر سي يخلف بودينار ليتابع سيرورة تحصيلنا الدراسي، وبما أنّ غالبية الطلبة يقطنون بعيدا فإننا نأتي دون عشاء، فيقوم الشيخ برعايتنا والتكفل بإطعامنا وخدمتنا بنفسه رغم عجزه وإعاقته في رجله، تصوّر أنّه كان يحمل صحن الطعام بيد والعصا بيد ويقدم لنا العشاء بنفسه. وللتاريخ فإن الشيخ أحمد عاشور رحمه الله لم يكن يتقاضى أجرا عن تعليمه بل كان يحتسب أجرَ ذلك عند الله تعالى .
والشيء الذي أشهد به للشيخ أنّه كان يمتلك نظرة استشرافية وبُعدَ نظَـر، إذْ كان يُهيئنا لأمر عظيم وهو إمامة الناس في صلاة التراويح في شهر رمضان وكذا في صلاة العيدين بتلك القرى والمداشر النائية التي تفتقر في ذلك الوقت لأئمّة ومُدرّسين يبينّون للناس أمور دينهم ودنياهم..
7 – هل لكم سيدي سردَ تلك الحادثة التاريخية بين الشيخين السعيد بلعيساوي صاحب الزاوية المشهورة المعمورة والشيخ الضيف سماري صاحب المواقف الخالدة المأثورة ليعلم هذا الجيل زهد هؤلاء الكبار؟
* بالتأكيد.. ممّا سمعتُه وصار متواترا لدى جيلي أنّ الشيخ السعيد بلعيساوي قال للشيخ الضيف سماري جدّ الوزير السابق عبد القادر:
” لقد سمّاني والدي بالسّعيد، لكن لا أدري أأكون يوم القيامة سعيدا أم شقيّا، أمّا والدك فقد ألهمه الله هذا الاسم (الضّيف) وكان اسمك في محلّه لأنّنا كلّنا ضيوف في هذه الدّار الفانية “.
8 – لو تفضلتم أستاذنا الفاضل بإعطائنا نبذة وجيزة حول سيرة الشيخ الحاج السعيد بن العيساوي رحمه الله وقد كان لك شرف الاطلاع على سيرته مكتوبة بخطّ اليد؟
* بكل سرور..هي نبذة مقتضبة عن سيرته مكتوبة بخط اليد من إملائه، يقول فيها:
” كنّا نسكن في بيت الشعر (الخيمة) ثمّ بنينا في طوملة بيتا وجامعا لتعليم القرآن، وكنتُ أصلي الجمعة في الدشرة (أولاد لعياضي ببرج الغدير).
في سنة 1913م انتقلتُ إلى المدينة المنورة والتقيتُ بالشيخ البشير الإبراهيمي وأبيه السعدي في المدينة المنورة.
وفي سنة 1914م رجعتُ إلى الجزائر.
في سنة 1924م انتقلت من طوملة إلى مدينة رأس الوادي (الفيلاج) أي المدينة.
وفي سنة 1929م دُشّن المسجد الموجود حاليا (العتيق) وحضر التدشين الشيخ عبد الحميد بن باديس ووفــدٌ من قسنطينة وسطيف والبرج، وأقيمت فيه أول جمعة صلاها الحاج محمّد بن الحاج السعيد بن لطرش من برج الغدير.
دخلت فرنسا إلى رأس الوادي سنة 1890م وخرجت سنة 1962م”.انتهى كلام الشيخ ابن العيساوي.
9 – سنرهقكم بعض الشيء أستاذنا، لأنني سأطلب منكم أن تعتصروا ذاكرتكم النّدية بإفادتنا بملخّص مفيد لسيرة وأعمال ومآثر شيخك وأستاذك بل فخـرُ مدينة رأس الوادي الشيخ العلاّمة الفقيه، والمربّي اللبيب النبيه أحمد عاشور- طيّــب الله ثراه- فهل سيجد الجيل الجديد ضالته في جعبتكم الثرية؟
* إن شاء الله سأذكر لك أهمّ المحطات في حياة شيخي أحمد عاشور رحمه الله الذي درستُ على يديه أصول الفقه :
ولد الشيخ أحمد عاشور بن الحاج ساعد سنة 1912م بدوار تيطست بمدينة رأس الوادي، وقد تلقى في مرحلة الطفولة جزءا من القرآن الكريم عن والده، قبل أن يتوجه إلى زاوية بن قطوش بدوار الخربة بعين ولمان، حيث حفظ القرآن هناك، وبحكم أنّ عائلته ميسورة الحال فقد قرر والده – بما توسّم فيه من ذكاء ونباهة- أنْ يرسله إلى جامع الزيتونة لمزاولة دراسته الثانوية والجامعية وكان ذلك سنة 1933م، وبعد سنوات من الكدّ والتحصيل والمثابرة تحصّل على الشهادة الجامعية (التطويع) سنة 1939م، وفي أوائل سنة 1940م عاد إلى الجزائر وشرع في بعث حركة علمية وثقافية، حيث أسّس جمعية إصلاحية في محل محمد بودينار (السخون) كان يقدم فيها دروسا ليلية. ثم أنشأ مدرسة حـرّة أسماها مدرسة التهذيب وقد فتحت أبوابها سنة 1942م.
كما أسّس فوجا للكشافة الإسلامية أشرف عليه سي محمد الطاهر سخارة رحمه الله، إضافة إلى تأسيس جمعيات عدّة لبناء المساجد في طوملة والشلخة وبئر الشحم وشعبة عون وكان يشرف على هذه المساجد كلها وبمعلميها .
في سنة 1945م وبعد أحداث الثامن ماي أغلقت المدرسة وحُلّت الجمعية وسُجن بعضُ أعضائها.
رحل الشيخ في السنة نفسها إلى بير الشحم، وفي سنة 1947م عاد الشيخ إلى تشكيل لجنة وفتح المدرسة من جديد بمسكن سي يخلف بودينار.
وفي 1953م حصل على رخصة بناء هذه المدرسة بمواصفاتها الحديثة القائمة اليوم وقد أشرف على بنائها المقاول “حمور” من برج الغدير، ووضع حجر أساسها الشيخ الحاج محمد بن السعيد بن لطرش من برج الغدير حيث ألقى كلمة بالمناسبة، وتمت نهاية الأشغال بها سنة 1954م وبقيت من وقتها تشتغل حتى سنة 1956م أين تمّ إغلاقها من طرف سلطات الاستعمار الفرنسي بعد التحاق معظم طلبتها بالثورة مثل العمري داود وعمار دهان والصالح باي..وبقي الشيخ بين السجن والبيت.
وفي شهر ماي 1961م ألقت السلطات الاستعمارية القبض على الشيخ أحمد عاشور وزجّت به في سجن مجانة وتلقى ألوانا من العذاب حيث شُــلّ نصف جسده وأصبح طريح الفراش لا يستطيع الجلوس والقيام ثم أطلق سراحه من السجن في شهر سبتمبر 1961م بعدما يئس العدو من حياته.
وبعد الاستقلال مباشرة فتحت مدرسة التهذيب ثمّ أدمجت في التعليم العام، وبعد تعيين سي لكحل مديرا للتربية ذهبتُ إليه وسلّمتُ له شهادة التطويع الخاصة بشيخي أحمد عاشور فاندهش لوجود مَن يحمل هذه الشهادة العليا في ذلك الوقت، فقام بتعيينه فورا مديرا لمدرسة التهذيب التي أنشأها الشيخ قبل الثورة بقليل وهاهو يعود إليها مديرا ومسيّرا بعد الاستقلال، لكنه لم يمكث فيها إلاّ عاما واحدا بسبب مضاعفات آلام التعذيب الذي تعرّض له أثناء اعتقاله، فأصيبت رِجْلُه الثانية بالشلل ممّا جعله يكتب استقالته من إدارة المدرسة لشعوره بأنّه غير قادر على تأدية مهامه على أحسن وجه من جهة، ومن جهة أخرى لورعه وخوفه من أن يتقاضى أجرا على عمل لا يقوم به. قمتُ بتسليم الاستقالة إلى المفتش سي الصالح الذي رفضها بشدّة نظرا لتقديره ومعرفته بمكانة الشيخ وما قدّمه للجزائر من تضحيات جسيمة كانت هي السبب في تدهور حالته الصحية. لذلك جعل نائبه سي عمر الشاوي من مروانة يقوم بمهامه واقتصار مهمّة الشيخ أحمد عاشور على التوقيع، لكن لم تمضِ سوى 6 أشهر فقط حتى أرسل الشيخ
استقالته النهائية إلى أن وافته المنية صابرا ثابتا سنة 1964م . رحمه الله وجعل ما قدّمه للجزائر في ميزان حسناته يوم القيامة.
وفي سنة 1974م حُوّلت مدرسة التهذيب إلى معهد أصلي لعلوم الدين حيث أشرفتُ عليها (أي سي أحمد الوالي) متطوعا لمدة أربع سنوات، حيث وصل عدد الطلاب المتمدرسين بها إلى 700 تلميذ. والحمد لله صارت اليوم شعبة من شعب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تصدح بآي الذكر المبين.
10- لا يمكن أستاذي الفاضل ونحن نتعطّر بذكر هؤلاء المشايخ المجاهدين دون أن نُعرّج على قامة فقهية وعلمية بل موسوعية وصلت أصداؤها إلى بلاد الحرمين الشريفين ألا وهي شخصية العالم الزاهد الشيخ محمد العربي بن التباني الذي درّس بمدرسة الفلاح بالمسجد الحرام، فهل لك أن تسرد علينا بعضا من سيرته العلمية وشمائله الروحية ومؤلفاته النفيسة الجليلة؟
* سأعطيك لمحة مقتضبة عن سيرة هذا القمقام الذي سلخَ عمره في جنبات المسجد الحرام :
هو الشيخ محمد العربي بن التباني بن الحسين بن عبد الرحمن بن يحي بن مخلوف بن أبي قاسم بن علي بن عبد الواحد يتصل نسبه إلى عبد السلام بن مشيش الذي يتصل نسبه بإدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم .
ولد بقرية رأس الوادي سنة 1315هــ حفظ كتاب الله في كُتاب القرية وعمره 12 سنة، كما حفظ بعض متون العلم كالرحبية، وتلقى مبادئ العقائد والفقه والنحو على عدة مشايخ أجلهم عبد الله بن القاضي اليعلاوي.
بعد البلوغ بسنتين رحل إلى تونس حيث مكث أشهرا حضر فيها عند بعض مشايخ الزيتونة دروسا في الفقه والنحو والصرف والتجويد، ثم رحل إلى المدينة المنورة ودخلها سنة 1332هـ، وأدرك فيها مشايخ لازم دروسهم منهم الفقيه الصالح الشيخ أحمد بن محمد خيرات الشنقيطي الذي توفي سنة 1336هـ، كما لازم الشيخ العلامة المحقق حمدان بن أحمد لونيسي الذي توفي سنة 1338هــ شيخ ابن باديس حيث قرأ عليه تفسير الجلالين وألفية ابن مالك بشرح ابن عقيل، وجوهرة اللقاني، واستفاد منه كثيرا وأجازه بجميع مروياته بخطه.كما لازم الشيخ العلامة المحقق عبد العزيز الوزير التونسي الذي توفي سنة 1336هــ، حيث قرأ عليه قسما من موطأ الإمام مالك بشرح الزرقاني وأبوابا من مختصر العلامة خليل بشرح الدردير وقسما من ألفية ابن مالك بشرح الأشموني، وقرأ أيضا عن العلامة الصالح اللغوي محمد محمود قاضي بلدة شنقيط المعلقات السبع ونظم أنساب العرب للبدوي الشنقيطي.
بعد ثورة الشريف الحسين بن علي على الأتراك خرج إلى دمشق الشام كما خرج من المدينة أكثر سكانها بحكم ضرورة الحرب فمكث فيها أشهرا وكان يتردد على مسجد بني أمية للصلاة وزار مكتبة الملك الظاهر ودار الحديث الأشرفية، ثم خرج منها قاصدا مكة المكرمة سنة 1336هــ فحضر بالمسجد الحرام دروس العلامة الشيخ عبد الرحمن الدهان الذي توفي سنة 1337هــ.
وفي سنة 1338هـ وظف مدرسا في مدرسة الفلاح التي تأسست سنة 1330هــ حتى وفاته.
ترك رحمه الله كثيرا من المؤلفات منها:
– تنبيه الباحث السري إلى ما في رسائل وتعاليق الكوثري.
– تحذير العبقري من محاضرات الخضري.
– إتحاف ذوي النجابة بما في القرآن والسنة من فضائل الصحابة.
– إسعاف المسلمين والمسلمات بجواز القراءة ووصول ثوابها إلى الأموات.
– اعتقاد أهل الإيمان بالقرآن بنزول المسيح بن مريم آخر الزمان.
– خلاصة الكلام فيما هو المراد بالمسجد الحرام.
– نزهة الفتيان في تراجم بعض الفُتاك والشجعان.
– محادثة أهل الأدب بأخبار وأنساب جاهلية العرب.
توفي رحمه الله بمكة المكرمة سنة 1390 هــ وبها دفن.
11- بقي سؤال لطالما أرّقني وأقضّ مضجعي، ويتمحور حول علاقة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بالشيخ السعيد بن العيساوي – رحمهما الله تعالى-، فقد كثرت الشائعات والأقاويل المغرضة بين الناس، حيث تــمَّ تصوير هذه العلاقة بالعدائية نظرا لموقف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من الزّوايا والطرق الصوفية بوجه خاصّ.
أرجو أن تقطعوا الشكّ باليقين وتزيلوا اللبس حول هذه العلاقة؟.
* أؤكد لك من خلال هذا المنبر أنّ علاقة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بالشيخ السعيد بن العيساوي – تغمدهما الله برحمته- كانت علاقة محبة وودّ واحترام متبادل، والدليل على حميمية ومتانة هذه العلاقة ما أخبرني به الشيخ السعيد بن العيساوي رحمه الله بنفسه، حيث طلب من الشيخ البشير الإبراهيمي ذات يوم التدريس بالمسجد العتيق بل وعرض عليه أيضا مصاهرته وتزويجه بإحدى ابنتيْه، لكنّ الشيخ الإبراهيمي رحمه الله اعتذر له بأسلوب ليّن وصريح وأخبره بأنّ هدفه هو تكوين جيل رساليّ من الشباب يستطيع حمل أمانة الأمّة وتحقيق طموحاتها، وهذا ما يتطلب جهودا تأكل الأعمار أكلا وتضحيات جساما تستوجب قطع الليل بالنهار.
والأمر الثاني الذي يدلّ على أنّ العلاقة بين الشيخين كانت وطيدة جدا هو مداومة الشيخ البشير الإبراهيمي على الصلاة بالمسجد العتيق (الزاوية) بحكم قربه من الدكان الذي كان يزاول فيه تجارته، وهو الدكان الذي لا يزال متواجدا إلى يومنا هذا “حمّام ابن شنوف”.
وسأحكي لك حادثة طريفة فيها من روح الدعابة ما يفنّد تلك الأقاويل والشائعات المغرضة، وهي حكاية يعرفها الصغير والكبير في منطقتنا:
ذات يوم أقبل الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله ووجد الشيخين السعيد بن العيساوي وسي العياشي بن شرّاد- وهو معلّم قرآن- جالسيْن، وبعد أن ألقى عليهما السلام قال للشيخ العياشي: مع من تجلس؟ فأجابه هذا الأخير بأنّه يجلس مع شيخ الزاوية ابن العيساوي، ردّ عليه الشيخ الإبراهيمي ممازحا: لقد وجدتُه “زُرنة”.. إذْ كلما فتحتُ دكّاني في الصباح أو في المساء رأيتُ أقواما يمرون جيئة وذهابا، فأسالهم: أين كنتم؟ فيجيبون: “زُرنا الشيخ” يقصدون أنهم كانوا في زيارة للشيخ ابن العيساوي رحمه الله.
وعندما ذهب الشيخ السعيد بن العيساوي رحمه الله لتأدية فريضة الحجّ سنة 1913م التقى بالشيخ البشير الإبراهيمي ووالده الشيخ السعدي بالمدينة المنورة ..
وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على العلاقة الطيبة المتينة والحميمية التي كانت تربط هذين الطودين الشامخيْن عليهما شآبيب الرحمة والغفران.
12- وكيف كانت علاقة الشيخ العلاّمة أحمد عاشور بالشيخ السعيد بن العيساوي؟
* كثير من الناس أشاعوا أيضا أنّ العلاقة بينهما كانت متوترة وعدائية وهذا ليس صحيحا بالمرّة، وإنّي أشهد أنّ أستاذي وشيخي أحمد عاشور –رحمه الله- كان يطلب مني كل عيد مرافقته لزيارة الشيخ السعيد بن العيساوي – طيّب الله ثراه- وكان يستقبلنا في بيته ونتناول القهوة سويا، وأشهد أيضا بأنّه لم يذكر طيلة حياته الشيخيْن البشير الإبراهيمي أو أحمد عاشور بسوء.
13- ربطتك علاقة متينة وحميمية بالأستاذ المؤرخ والمجاهد الكبير سي عمار دهان رحمه الله – العضو السابق في أول مجلس تأسيسي في جزائر ما بعد الاستقلال- . ماذا تقول في هذه الشخصية الفذّة؟
* الأستاذ المجاهد عمار دهان صديق الطفولة عرفته في مدرسة التهذيب سنة 1947م، وقد درستُ على يديه سيرة ابن هشام رفقة مجموعة من رفاقي مثل: الشيخ الواحدي بوستة ويخلف بودينار “السخون” رحمهما الله وسي محمد الأمين بن سيدي السعيد – شفاه الله وأطال في عمره-.
أمّا عن شخصيته فقد كان يمتلك شخصية مميزة متفرّدة ومستقلّة لا يقبل الرأي الآخر بسهولة إلا بعد أن يقتنع، وإذا اقتنع برأي مُخالفِه فإنّه يعترف له بالأحقية عن طيب نفس دون غضاضة أو حرج، وهذه الميزة من ميزات الكبار.
كما أنّه رجل كثير المطالعة نذر حياته للقراءة والبحث، وآثر ترك المنصب ليكمل مشواره مدرسا للغة العربية بمدينة سطيف حتى تقاعده رحمه الله.
وما يميزه أيضا أنّه رجل متسامح إلى أقصى الحدود..لا يحمل الحقد والضغينة لأحد عكس ما يُشاع عنه من قسوة وغلظة.
والشيء الذي لا يعرفه كثير من الناس أنّ هذا الأستاذ الجهبذ قد مارس في فترة من حياته مهنة الخياطة عند الشيخ سي أحمد بن الحاج الصالح إمام مسجد العتيق رحمه الله.
14- هل لكم أستاذي الفاضل أن تذكروا لنا أسماء الشيوخ والأئمة الذين تعاقبوا على إمامة المصلين في المسجد العتيق؟
* أثناء الثورة التحريرية تولى الإمامة فيه الشيخ بوحفص محمد بن الحاج لعياضي الذي استشهد فيما بعد، وخلَــفه ابن أخيه بوحفص عبد الله ونال أيضا وسام الشهادة بأولاد سي أحمد، بعدها تولى الإمامة فيه الشيخ محمد بن علي صويلح رحمه الله وهو صهر الشيخ ابن العيساوي أيضا حتى فترة الاستقلال، حيث رفض الإمامة بعد ذلك لأنّه استعظمها ورأى نفسه غير قادر على القيام بأعباء هذه المسؤولية العظيمة الجسيمة وذلك لما عُرف به من زهد وورع شديديْن. مبديا استعداده في الوقت نفسه تعليم الناس القرآن وتقديم الدروس حتى لا يترك ثغرا من ثغور الإسلام شاغرا.
15- تشهد الأسرة الجزائرية هزّات كثيرة تنذر بتفككها، وما منتوجها إلاّ دليل قاطع على فداحة المصيبة..مسخ وفسخ وضياع هوية..ما السبيل أستاذنا الكريم إلى تحصين الأسرة من الرياح التغريبية الهوجاء التي تهبّ عليها وتوشك اقتلاع جذورها وإعادة اللحمة بين أفرادها؟
* الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، وهي الصورة المصغرة للوطن، وكل من لا يخلص لأسرته لا يمكن أن يكون صادق الإخلاص لوطنه، والزواج مسؤولية وليس منفعة، بل هو أشدّ مسؤولية اجتماعية على الإطلاق، والقرآن الكريم أخبرنا أنّ بين الزوجين مودة ورحمة، وسبب انفراط عقد هذه المودة والرحمة في الأسرة يعود إلى التقصير في أوامر الله تعالى، قبل الزواج لقاءات ومحادثات بالساعات، وبعد الزواج يذهب ما كان من حبّ أدراج الرياح، لأنّ الشعلة التي كانت قبل قد انطفأت وخبا أوارُها، فكلّ ما بُني على طاعة الله يستمرّ ويُثمر، وكلّ ما بُني على معصية الله تولى الشيطان تسييره، لذا فشَــتْ للأسف بين الشباب والشابات ظواهر الاسترجال والتخنّث وتلاشت قيم الغيرة والحرمة وكثر الاختلاط وعمّ الفساد المنذر بخراب الأوطان والبلدان.
وما أصيبت الأسرة الجزائرية في مقتل إلاّ بتخلي الأمّ التي هي المدرسة الأولى عن دورها الرسالي في تهيئة الأبناء وإعدادهم إعدادا سويا على تقوى من الله ورضوان، وقد صدق شاعر النيل حافظ إبراهيم حين قال:
الأمّ مدرسة إذا أعددتها * أعددتَ شعبا طيّب الأعراق
ورسول الرحمة عليه أزكى الصلوات والتسليم يقول: “كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه..”
ويقول المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي رحمه الله: ” فالإنسان يجب أن يشرب ويأكل وينسل ويملك ويكافح من أجل استمرار النّوع، ولكنه يجب أن يراقب هذه الأعمال الأولية جميعَها وأن يوجّهها لغايات تتّفق وتقدّم النّوع”..
وعندما غاب التوجيه والتعهّد والرعاية والابتعاد عن شرع الله غابت دعائم الأسرة المتماسكة وبالتالي صارت عرضة للفسخ والمسخ والانحلال.
16 – بعد الاستقلال مباشرة خضتم تجربة التربية والتعليم في عدّة مدارس ابتدائية، وشاركتم في تكوين الطلائع الأولى لجيل الاستقلال. ما هي المدارس التي عملتم بها؟ وما تقييمك لهذه التجربة المميزة بالرغم من نقص الهياكل والإمكانات وكذا محدودية التأطير التربوي والإداري المؤهل لحمل هذه الرسالة الجسيمة؟
* بعد الاستقلال مباشرة التحقت بمدرسة التهذيب أين مكثتُ بها 6 أشهر فقط، انتقلت بعدها إلى مدرسة الذكور من 1963م إلى غاية 1965م، ثمّ تمّ تعييني بمدرسة تيزي قلعة بالمنصورة لموسم واحد (1965-1966)، عدتُ مرة أخرى إلى مدرسة الذكور ودرّست بها الموسم الدراسي (1966-1967)، بعدها انتقلتُ إلى مدرسة العيدي عبد الرزاق بطوملة حيث مكثت بها خمس سنوات، وفي سنة 1973م انتقلت إلى مدرسة أحمد عاشور مع تكليفي بإدارة وتسيير مدرسة التهذيب لمدة أربع سنوات كمتطوع، إلى غاية استفادتي من التقاعد سنة 1988م.
لقد كانت تجربة ثرّة وثرية حيث استطاع جيلنا تحدي كل العراقيل والمعوقات رغم ضعف التأطير والإمكانات، وكان سلاحنا هو الرغبة والإرادة والهمّة العالية وشعورنا بقدسية الرسالة التي نحملها ونبلغها للأجيال القادمة..كلها عوامل ذاتية دفعتنا لتقديم ما يمكن تقديمه وفاء لأرواح الشهداء وتضحيات العلماء العاملين والشيوخ المصلحين المربين الذين سبقونا.
17- في ختام هذا الحوار الطويل والشيّق هل لكم من كلمة أخيرة؟
* اللهم اجعلنا من المؤمنين العاملين الصالحات الثابتين على الحق الموصين به، والصابرين في البأساء والضراء إنك على كل شيء قدير.. اللهم أصلح العباد والبلاد، وأبعد عنه الفتن والمحن، ماظهر منها وما بطن..اللهمّ إنّا نسألك صلاح الولد والعافية في الجسد والأمن للبلد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تمّ الحوار يوم: السبت 3 سبتمبر2016م الموافق لــغرّة ذي الحجة 1437هـ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى