كم استبشرنا بهذه المصالحة التي أنجزت، وتجاوزت حركة فتح وحركة حماس كل خلاف، وما كان ينبغي أن يحصل خلاف، ولا نزاع بين من عزموا على تحرير الوطن، وجعلوا غايتهم تحقيق الحرية لأهلهم، وتحريرهم من الظلم والاحتلال الاستيطاني المقيت.
عن شرط قيادة تحرير الأوطان الأول في كل الثورات هو وحدة هذه القيادة، وتماسكها، حتى لا يتسرب إليها من يدمرها من داخلها، ولا يكفي أبدا أن تنطلق الثورة، بل لابد من أن تحاط بالحذر الشديد لاستمرارها، ودوام وحدتها من أن يتسرب إليها ما يضادها، وينحرف بها عن غايتها.
إن الأمة طاقة عظيمة، تسند فلسطين إذا شعرت بوحدة قيادتها والثقة فيها وإخلاصها في جهادها.
إن الفتور الذي نراه في النظم العربية حيال فلسطين ينبغي أن يذهب ويختفي، وأن تقوى العزائم الصادقة، والهمم العالية في العالم الإسلامي الذي تشرذم، ومسته الضراء، والبأس الشديد بين الشعوب والنظم، فاختفت الثقة، واشتعلت نيران الفتن، والتكفير، ونرى من يزعم أنه من شيوخ الإسلام يكفر المسلمين بلا مبرر، سوى الأهواء السياسية الظالمة، وركوب مراكب الظالمين، والسعي للإفساد بين المسلمين، باسم التدين الكاذب البليد، الذي يدل على الغباء المبين، والإمعة التائهة، والضلال البعيد.
إن الثورات في تاريخها القديم والحديث تدل على أنها عرضة لثورة مضادة تقضي عليها من داخلها أو من خارجها عن طريق الدخول بين قادتها بالشعار نفسه، ولكن يستعمل لتدمير تلك الثورة، أو تحويل مجراها، والانحراف بها إلى طريق آخر ببعدها عن غايتها.
كم طالت المفاوضات، وطال معها استغلال الوقت وبناء المستوطنات، ونهب الأرض، واقتلاع الشجر، وقهر الإنسان، وتهويد الأرض المقدسة، وبلطجة المتطرفين من اليهود الذين ينقضون كل العهود والمواثيق، ويعملون لأجل طرد المسلمين والمسيحيين من ديارهم ومعابدهم، ويعتدون على المساجد والكنائس، ويهددون أهلها في حماية من الشرطة، ورعاية من الجيش، لقد أثبت التاريخ قديما واليوم أن بني إسرائيل لا عهد لهم، كلما عاهدوا عهدا نقضوه، وكلما واثقوا ميثاقا خالفوه وأنكروه.
كيف لا يعجبهم تصالح الفلسطينيين، ولا يرضون وحدتهم، وهذا شيء عجاب لا يقبله منطق، إذا اختلف الفلسطينيون قالوا إنهم مختلفون ولا نجد من نتفاوض معه ممثلا حقيقيا، لم يرضوا عن ياسر عرفات حتى قتلوه، ولم يرضوا عن عباس أبو مازن حتى قاطعوه، فمن إذن يرضون عنه؟
يرضون عن من يخضع لهم، ولا يرد لهم كلمة، ويتنازل كل يوم عن أمر يرتضونه ويقبلونه، والعجيب أن المسيحيين في العالم وفي مقدمتهم البايا يشاهدون كيف يضطهد المسيحيون في فلسطين، ويعتدى على كنائسهم ومقدساتهم ثم تراهم يؤيدون دولة الاحتلال ويخضعون لسياستها التي لا منطق لها سوى السيطرة ونهب الأراضي والعدوان على الناس.
متى تنظر الولايات المتحدة إلى مصالحها الحقيقية مع العرب والمسلمين، وتكف عن تأييد ظلم دولة الاحتلال الصهيوني، فأي مبرر واضح في استمرار هذا التأييد، وهذا الظلم للعالم العربي والإسلامي الذي يضحي بمصالحه من أجل إرضاء سياسة أمريكا؟
تقول الولايات المتحدة أن لها قيما تراعيها في سياستها الخارجية، فأين مراعاة هذه القيم؟
إن دولة عظمى كالولايات المتحدة إذا تخلت عن القيم، وسلكت مسالك الظلم، فإن مآلها مآل الإمبراطوريات التاريخية التي ذهبت في غبار التاريخ، ولم يبق منها إلا اسمها في كتب التاريخ.
إن سياسة الولايات المتحدة لا تقوم لها قائمة في الشرق الوسط وفي العالم الإسلامي إذا واصلت نهجها الحالي، فإن الشعوب أخذت تأخذ مصيرها بأيديها، ولم يعد الاستناد إلى النظم وقادتها أمرا يدوم، ويكون ميسرا، العالم اتصل، والوعي يتصل، والباطل ينكشف، والشعوب بالمرصاد، والله فوق ذلك كله، ينصر المظلوم وإن طال أمد ظلمه.