في الوقت الذي كان كثير من الناس، حتى ممن كنا نعدهم من الأخيار، يخوضون ويلعبون في هذه المهزلة المسماة “انتخابات”؛ كنت مشدودا إلى ما يقع من فتنٍ تجعل الحليم حيرانَ في وطني الغالي الذي أرخصته سياسة عمياءُ صماءُ بلهاءُ، لا يُهِم أصحابها إلاّ تحقيق مكاسب، ونيل مآرب، وملء حقائب.
من هذا الذي يقع في وطني العزيز الذي أذله الأذلاء هذه الفتنة التي تعصِف بمنطقة غالية علينا، والتي يأبى الفاسدون والمفسدون أن تنطفئ نارها، وأن يتوقف لهيبها، حيث تُزهق أرواح، وتنتهك أعراض، وتُسلب أرزاق، وتُحرق بيوت ومتاجر، ولم ينجُ منها حتى الموتى في قبورهم، إنها الفتنة التي تولّى كِبرها في واد ميزاب شياطين الإنس مهما يكن مذهبهم وأصلهم.
علمنا ابن نبي ـ رحمه الله ـ أن نُفرق بين ما سماه “الحادث” (évènement ) وبين ما سماه “التاريخ”(histoire)، ومعناه أنّ أي حادث يحدث ليس ابن يومه، ويبدو أن هذا القول ليس على الإطلاق، فتاريخ سكان المنطقة يؤكد أنهم عاشوا إخوة متآلفين متعاونين، وكل ذلك بفضل الإسلام.
إن ما يقع اليوم في غرداية وما حولها، هو من كيد كائدين، ومكر ماكرين، يتسمّون بأسمائنا ويعيشون بيننا ولا يهمّهم إلا ملء الجيوب، التي ارتكبوا من أجلها كل العيوب.
إن بعض الموقظين لهذه الفتنة، المتسببين في هذه المحنة هم ممن يزعمون أنهم آمنوا بالله ـ عز وجلّ ـ وبكتابه الذي أنزله على رسوله ـ عليه الصّلاة والسلام ـ ولكن أفعالهم تدل على أنهم ممن يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا، ولو لم يكونوا كذلك لما تجرأوا على إزهاق أرواح، وإتلاف ممتلكات، وإرهاب أطفال.
إن المذهبين المالكي والإباضي اللذين ينسب إليهما السفهاء هذه الفتنة العمياء بريئان مما يقوم به أناسٌ من هؤلاء وهؤلاء باسم هذا المذهب أو ذاك ممن استحوذ عليهم الشيطان، واتخذهم آلاتٍ لتحقيق ما أقسم على تحقيقه من إفساد، ونَزْغٍ بين الإخوة.
إن الذين يُغمضون أعينهم حتى لا يروا ما يجري في غرداية وما حولها من جرائم، والذين يضعون أصابعهم في آذانهم لكي لا يسمعوا صرخات الأبرياء سيندمون، وسيعضون أصابعهم عندما تصل إليهم في عُقرِ ديارهم نار الفتنة التي أوقدوها، أو نفخوا فيها.
لقد تخيّلت منذ سنوات حوارا بيني وبين الشيطان، وقد سألته عن مقره في الجزائر فأجابني بأنه لا مقر له فيها، فسألته عن السبب فقال لي بأنه غادرها منذ دخلتها فرنسا، فقلت له: لقد طردنا فرنسا منها فلماذا لم تعد إليها؟ فقال لي بأن بعض من تَرَكَتْهُم من”الجزائريين” أكثر شيطنة منها ومنّي.
يبدو أن الشيطان “صدق” فيما قال، لأننا لم نعرف فتنة بين الإخوة في هذه المنطقة وفي غيرها من مناطقنا بمثل هذه الدركة من الحقد والبغضاء والوحشية في سالف العصور، ومن كان في هذا يمتري فليأتنا بفتنة كهذه فعلتها فرنسا هناك، والجميع يعلم أنني أوّلُ اللاعنين لها.
لو كان المسؤولون على شيء من الوعي لنفروا خفافا وثقالا إلى غرداية، كما ينفر الحجيج إلى المشاعر، ورابطوا فيها حتى يقضوا على الفتنة وموقظيها، ولكن يبدو أنهم منشغلون بما سيسفر عنه فجر يوم 18 أفريل، هل سيخيب أملهم ويقصيهم الشعب، أم يمد لهم الرحمان مدا إلى أن يأخذهم أخذا وبيلا.
أنزل الله شآبيب الرحمة على ضحايا الفتن في وطننا، وربط على قلوب ذويهم، وأفرغ عليهم الصبر الجميل، ولعن كل فتان زنيم، أغضب الرحيم وأفرح الرجيم.