تعاليم الدين وأسرار الحياة توقفنا على كثير من الحقائق التي تخفى على الأغرار أو المتعجلين، وقد تطغى خُلة في شخص تُقدِّمه في كل الحالات، حتى وإن بدت عورته أو عثرته في بعضها، وقد لا يشتهر بين الناس شخص بالرغم من خصال خير تبدو عليه، والعاقل من يتحيّن الفرض لتوظيف كل خصلة في موضعها، فقد يتقدم في مرحلة من مراحل الحياة من لا يُظن به إلا التأخر فيها، وقد يتخلف عنها مِقدام لسوء تقدير، أو لأمر خفيّ قد لا يعلمه إلا الله.
ولا تظهر معادن الرجال إلا في الخطوب أو الفتن، وكم من شديد خانته شدّته، أو أخطأ في استغلالها، ورب شخص لا يلفت انتباها، أو لا يثير إعجابا، تبدر منه بوادر عقل وحكمة في حالات التيه والغرور، فيخمد الله به فتنة، أو يصلح به شرخا، يُبقيه حيا في قلوب الناس وذاكرة التاريخ.
أخرج ابن حبان في صحيحه (28/378) وابن ماجه (1/82) عن قيس بن أبي حازم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: “وددت أن عندي بعض أصحابي، قالت: فقلنا: يا رسول الله: ألا ندعو لك أبا بكر؟ فسكت، قلنا: عمر؟ فسكت، قلنا: علي؟ فسكت، قلنا: عثمان؟ قال: نعم، قالت: فأرسلنا إلى عثمان، قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه ووجهه يتغير، قال قيس: فحدثني أبو سهلة أن عثمان قال يوم الدار: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهدا وأنا صابر عليه، قال قيس: كانوا يرون أنه ذلك اليوم”.
وأخرج الإمام أحمد في المسند (40/297) عن أبي سهلة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ادعوا لي بعض أصحابي، قلت: أبو بكر؟ قال: لا، قلت: عمر؟ قال: لا، قلت: ابن عمك علي؟ قال: لا، قالت: قلت: عثمان؟ قال: نعم، فلما جاء قال-أي لعائشة-: تنحّي، فجعل يُسارّه، ولَون عثمان يتغير، فلما كان يوم الدار وحُصر فيها قلنا: يا أمير المؤمنين، ألا تقاتل؟ قال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليّ عهدا، وإني صابر نفسي عليه“. وقد أخرج الحديث مختصرا الإمام الترمذي (6/72) وقال: “حسن صحيح..” وصححه الألباني في أكثر من كتاب من كتبه، انظر مثلا: مشكاة المصابيح:(3/324).
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري يرفعه – في حديث طويل: “… فجاء إنسان فحرك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان فقلت: على رسلك، قال: وجئت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: ” ائذن له وبشره بالجنة، مع بلوى تصيبه…”
الحياء في الناس قد يقترن ببعض الضعف في المواقف، أو هكذا يشتهر بينهم اعتقاد، وبخاصة حين يُقدَّر أن يتخلّف عن موعد نزال في المواعيد الحاسمة، ولقد تخلّف عثمان بن عفان الحييّ-في نفر تخلفوا بأعذار- عن غزوة بدر، ولاحق بعضَهم هذا الغياب في أقاويل الناس، حين تُثار سير البطولة، أوحين تُطل بوادر الفتن برأسها، غير أن سيرة الرجل-الذي تستحيي منه الملائكة- قد ازدانت بموقفه في الفتنة، حين أبى أن يكون جزءا منها، أو أن يَقوى وَقودها بخوضٍ منه فيها بحق، ألم يكن الخليفة الشرعي؟ وهل كلما نعق ناعق بمطلب استُجيب له، والمطلب في هذه الفتنة أُشهِر معه السيف في وجه الحييّ ! لو دافع عن نفسه-كما أُلِحّ عليه- لما ذكره أحد بسوء، ولبرّر التاريخ موقفه، ولكنها وصية الرسول صلى الله عليه وسلم له بالصبر والاحتساب، التي سارّه بها النبي، وتغيّر بسببها وجهه الكريم، ألزم نفسه بها، وحقن بدمه المراق دماء المسلمين، أن تسيل في شوارع المدينة الشريفة، وأن يُؤثر عنه أنه خالف وصية حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
لقد فهم نقلة الخبر المباشرون -حين وقع الهجوم الآثم على عثمان، وحين أصرّ على موقفه بعدم الرد على العدوان- أن ما أسرّ به النبي إليه – ودعاه إلى الصبر عليه- كان يتعلق بذلك اليوم المشؤوم، ولعله موقف اتخذه بعض الأصحاب الكرام -لاحقا- سندا لهم فيما آثروه من عزلة في الفتنة الكبرى التي حدثت بعد ذلك، بالرغم مما استقر عند الجماهير من صحة موقف علي رضي الله عنه ومَن شايعه، وماذا على مَن خاض في الفتن في أمصار المسلمين-قديما وحديثا- لو أمسكوا عنها، واستنّوا بموقف عثمان رضوان الله عليه؟ ! وبخاصة أنه الموقف الذي حاز تزكية مسبقة من النبي صلى الله عليه وسلم.