في ذكرى وفاة الشيخ عبد الحميد ابن باديس رائد النهضة في الجزائر
في ذكرى وفاة الشيخ عبد الحميد ابن باديس رائد النهضة في الجزائر
أين نحن من سيرة وأعمال هذا العالم الجليل؟
أ. محمد سريج
تمر الأيام والسنون والعقود على الأشخاص والأمم، ولا يبقى منها سوى مآثر خالدة، التي تركت بصماتها في سجل الإنسانية، فالرجال ـ وعلى العادة ـ لا تسجل أنسابهم ولا صورهم ولا حتى أموالهم، بل تسجل أعمالهم، التي قدموها للبشرية، وتسجل عبقريتهم ومبادئهم التي تفيء إلى ظلها الإنسانية، حين تطغى عليها المصائب التي تجتاح الناس دون استثناء.
وإذا كان لابد لنا من أن نشيد بأعمال العظماء، والمفكرين والمصلحين، فالأحرى ونحن قاب قوسين أو أدنى من إحياء ذكرى وفاة الشيح عبد الحميد بن باديس، المصادفة للسادس عشر من أفريل من كل سنة الموسومة بيوم العلم، أن نقف وقفة تأمل وتمعن في مجمل خصال الشيخ ومواقفه المتعددة، التي شهد بها القاصي قبل الداني، كيف لا، وهو من العلماء، الذين عرفتهم الجزائر، في عز ثورتها الفكرية والتعليمية والإصلاحية على الاستدمار الفرنسي من جهة، وأتباعه من الاندماجيين والمتجنسين والمؤمنين بالخرافات والأوهام وغيرها، ويحق لنا ـ نحن الشباب ـ بعد مرور ثلاث وسبعين سنة على وفاة الشيخ على أن نتساءل: ماذا أخذنا من سيرة هذا العالم؟، من فكره، وتربيته، وتعليمه، والدعوة للإصلاح المجتمع، سيما ما تعلق بالجانب الديني المشوب بالخرافات، وبناء على هذه التوطئة البسيطة، ارتأيت أن أوجز بعض ما قدمه هذا الإمام في سبيل تعليم النشء، وتربيته وتهذيب أخلاقه وإخراجه من الجهل إلى العلم، ومن الجبن إلى الشجاعة في الدفاع عن الحق، ومن الخرافة والوهم، إلى الإسلام الصحيح، النقي الذي جاءنا به أفضل خلق الله محمد (ص).
إنه الوطني، والقومي، والسياسي، والإنساني، والمصلح، لقد جمع العديد من الخصال التي أهلته ـ بحق ـ إلى أن تخلد ذكراه، علنا نستلهم منها العبر ونستخلص الدروس ونكون خير خلف لحير سلف.
الوطنية والإنسانية في فكر ابن باديس: لطالما أشاد الشيخ في حياته بانتمائه لهذا الوطن، الذي عده جزءا من الوطن الكبير (الإنسانية)، ويقول في هذا الشأن: “إننا نحب الإنسانية ونعتبرها كلا، ونحب وطننا ونعتبره جزءا، ونحب من يحب الإنسانية ويخدمها ونبغض من يبغضها و ظلمها …”(1).
الشباب المستقبل الواعد: لقد اعتز بالشباب وكان يرى فيه القوة والعزة والريادة ليقود البلاد، ويرد الأعادي ويتجلى ذلك فيما قاله يوما في خطاب ارتجله في مدرسة الإصلاح ببجاية : ” …إنني لمسرور، جدا حينما أرى الشباب لافتا نظره إلى دينه ولغته وأمته ووطنه…يسرني كثيرا شباب الجزائر بنظرة عامة، وأعلق عليه آمالا وطيدة في مستقبله…”( 2).
حث الأمة على طلب العلم والمعرفة: كثيرا ما حث عموم المجتمع على ضرورة طلب العلم، والسعي لذلك دوما، فهو الوسيلة الوحيدة والفعالة للنهضة والتقدم والرقي في سلم المعارف، يقول الإمام المصلح: “…أيها الشباب المسلم الجزائري، أما أبناؤك الشبان، حملة القرآن فقد هبوا هبة رجل واحد لطلب العلم والتفقه في الدين، يحملون القرآن في قلوبهم والروح الجزائرية المسلمة في لحومهم ودمائهم، لا يقصدون إلا أن يتعلموا فيعلموا ويتفقهوا فيفقهوا…”(3)
صلاح التعليم أساس الإصلاح: يقول: لن يصلح المسلمون حتى يصلح علماؤهم، فإنما العلماء من الأمة بمثابة القلب، إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله…، ولن يصلح العلماء إلا إذا صلح تعليمهم، فالتعليم هو الذي يطبع المتعلم بالطابع الذي يكون عليه في مستقبل حياته، فإذا أردنا أن نصلح العلماء فلنصلح التعليم…”(4) ـ
تعليم اللغتين ضروري لنا: هذا عنوان لمقال مطول يتحدث فيه الشيخ عبد الحميد غلى ضرورة تعلم اللغات بمختلف أنواعها، وإن قصد في هذا المقال اللغة العربية والفرنسية على حد سواء، ولم يكن ينظر إلى اللغة الفرنسية نظرة عنصرية دونية، بل حث على تعلمها إلى جانب العربية، ففي معرض الحث على تعلم العربية يقول: “… إن الدين العالي لا يفهمه الجزائريون إلا بفهم لسانه العربي الذي هو لسانهم القومي… ” ثم لا يلبث أن ينتقل إلى الحديث عن تعلم لغات أوربا قائلا: “….إن الذي يحمل علم المدنية العصرية اليوم هو أوربا، فضروري لكل أمة تريد أن تستثمر ثمار تلك العقول الناضجة، أن تكون عالمة حية من لغات أوربا، وكل أمة جهلت جميع اللغات الغربية فإنها تبقى عزلة عن هذا العالم….(5) ـ
الوحدة التي آمن بها الإمام: من يقرأ مقال: ” ما جمعته يد الله لا تفرقه يد الشيطان “، يستشف أن الإمام يؤمن بالوحدة إيمانا لا يرق إليه الشك، ففي نظره أن الشعب الجزائري قضى بوحدته على كل مظاهر العنصرية والتفرقة، يقول: ” …إن أبناء يعرب ومازيغ قد جمع بينهم الإسلام منذ بضعة عشر قرنا، ثم دأبت تلك القرون تمزج ما بينهم في الشدة والرخاء، وتؤلف بينهم في العسر واليسر وتوحدهم في السراء والضراء حتى كونت منها منذ أحقاب بعيدة عنصرا مسلما جزائريا، أمه الجزائر، وأبوه الإسلام …”(6)
استماتته في الدفاع عن الثوابت الوطنية: كثيرا ما استنكر الشيخ تبعية الجزائر لفرنسا، رغم مزاعم الاستدمار وأزلامه من المتعاونين والخونة والمطالبين بالاندماج والتجنيس وغيرها، وعبر صراحة أن الشعب الجزائري أصيل، لم يكن فرنسيا ولن يكون، يقول: “…في كم خطاب قلنا، إننا لسنا فرنسا ولكننا مع فرنسا ولسنا أعداء لفرنسا، وقلنا لفرنسا إننا لسنا ضد أي جنس من الأجناس، فخلقنا الإسلامي يأبى علينا أن نعادي الأجناس…”(7).
لم يقف عند حد رفض التجنيس والاندماج، بقدر ما أجمع رأيه على المحافظة على الثوابت، سيما وأن الإدارة الفرنسية عملت كل ما في وسعها لتجهيل الشعب، ومسخ هويته بالقوانين الجائرة، يقول: ” تختلف الشعوب بمقوماتها ومميزاتها، كما تختلف الأفراد، ولا بقاء لشعب إلا ببقاء مقوماته ومميزاته، كالشأن في الأفراد، فالجنسية القومية، هي مجموع تلك المقومات، وتلك المميزات، وهذه المقومات والمميزات، هي اللغة التي يعرب بها ويتأدب بآدابها، والعقيدة التي يبني حياته على أساسها، والذكريات التاريخية التي يعيش عليها وينظر لمستقبله من خلالها، والشعور المشترك بينه وبين من يشاركه في هذه المقومات والمميزات (8).
وصايا نافعة للجزائريين: في مقال له بعنوان: ” أيها المسلم الجزائري” قدم العديد من النصائح التي نعتبرها غالية للجزائريين حرص منها على الوصول بالجزائريين إلى ما يجعله شعبا صالحا لنفسه وأمته والإنسانية جمعاء، هذه النصائح تصرفت فيها ونقلت المختصر تعميما للفائدة، يقول الإمام للجزائريين: “حافظ على عقلك، فهو النور الإلهي الذي منحته لتهتدي به إلى طريق السعادة في حياتك.
ـ احذر كل متعيلم يزهدك في علم من العلوم، فإن العلوم كلها أثمرتها العقول البشرية.
ـ حافظ على مالك فإنه قوام أعمالك، فاسلك كل سبيل مشروع لتحصيله و تنميته.
ـ احذر بالوعة المضاربات الربوية في معاملتك.
ـ حافظ على حياتك، ولا حياة لك إلا بحياة قومك ووطنك، ودينك ولغتك، وجميل عاداتك.
ـ كن ابن وقتك تسير مع العصر، الذي أنت فيه، بما يناسبه من أسباب الحياة وطرق المعاشرة والتعامل.
ـ احذر من الخيانة المادية في النفوس والأعراض، والأموال والخيانة الأدبية ببيع الذمة والشرف والضمير.
ـ احذر التعصب الجنسي الممقوت، فإنه أكبر علامة من علامات الهمجية والانحطاط (9) ـ
بقي أن نتساءل الآن، هل أخذنا ولو النزر اليسير من وصايا ابن باديس؟، أين نحن من حثه لنا بطلب العلم؟، وتعلم اللغات والأخذ بنصيب وافر من المدنية الحديثة التي نرتقي بها أمام الآخرين؟، هل الثوابت التي استمات في الدفاع عنها، نحن اليوم متمسكين بها ونعمل على ترسيخها في ذاكرة الأجيال؟، هل نحن في مستوى الوحدة التي آمن بها، ودعا إليها وأكدها في أكثر من مرة؟، أين نحن من تفانيه في تعليم الكبار والصغار، ذكور وإناث؟، هل نحمل هموم وطننا مثلما حملها ذات يوم لما قال: لمن أعيش؟(10)، أين نحن من كل هذا؟.فهل من مذكر ؟.
أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة الشلف
الهوامش :
(1) ـ المنتقد ، العدد.01، التاريخ: 02/07/1925.
( 2) ـ محمد الحسن فضلاء، الشذرات، من مواقف الإمام عبد الحميد بن باديس، مطبعة دار هومة، الجزائر،2001م، ص91 . نقلا عن البصائر، العدد 120، التاريخ 22/04/ 1938.
(3) ـ البصائر، العدد47، تاريخ:11/12/1936.
(4) ـ الشهاب، الجزء11، المجلد 10، غرة رجب 1353هـ، 10 أكتوبر 1934م.
(5) ـ آثار عبد الحميد بن باديس، ج4، مطبوعات وزارة الشؤون الدينية، ط1، قسنطينة، 1406هـ، 1985م، ص 41
(6) ـ البصائر، العدد 03، تاريخ:17 يناير 1936.
(7) ـ المصدر نفسه، العدد 135، تاريخ:14أكتوبر 1938.
(8) ـ الشهاب، » عبد الحميد ابن باديس« ، الجزء 12، المجلد12، ذي الحجة 1355هـ، فيفري1937م.
(9) ـ آ ثار الإمام عبد الحميد بن باديس، مرجع سابق.ص: 42 ـ 44 .نقلا عن جريدة الشهاب العدد 49، السنة الثالثة، 15 صفر 1345 هـ ـ 23 أوت 1956م.
(10) ـ له محاضرة عنوانها “لمن أعيش؟” ـ مضمونها: أنه يعيش الإسلام والجزائر ـ ألقاها الشيخ ابن باديس على أعضاء جمعية التربية والتعليم الإسلامية، منشورة في مجلة: الشهاب: ج 10، م 12، شوال 1355هـ، جانفي 1937م، وكذلك في كتاب: آثار الإمام عبد الحميد ابن باديس، مرجع سبق ذكره، ص: 109 ـ 113 .