مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
أعلام الجمعيةالتعريف بالجمعية

الشيخ العربي التبسي: حياته وآثاره بقلم د. نفيسـة دويـدة

TEBESSI la

  تبحث هذه المقالة في مسار حياة احدى الشخصيات الجزائرية المجاهدة والثائرة والمصلحة في آن واحد، هي شخصية الشيخ العربي التبسي: مجاهد القلم، وشهيد السلاح. ونحاول من خلال تتبع هذا المسار الحافل أن نتلمس واقع الجزائر المستعمرة، وتفاعلاتها الاجتماعية والثقافية وسط محيط متحول ينحو بطيئاً باتجاهات عدة. وإذا كان الفرد لا يمثل سوى نفسه في هذا التحول؛ فاننا أمام نموذج ايجابي يجذب اليه فئات المجتمع، ويحيطها باهتمامه على مدار يقارب الستين سنة هو الكوكب التبسي.

المولد والنشأة:

  هو العربي بن بلقاسم بن مبارك بن فرحات جدري الملقب التبسي، أصوله الاسرية تنتمي إلى قبيلة النمامشة العريقة، ولد (حسب شهادة الميلاد المستخرجة له بتاريخ 20/10/1927م والمسجلة تحت رقم 239/1927م) في الفاتح جويلية 1891م بقرية أسطح الواقعة جنوب غرب مدينة تبسة، من عائلة فلاحية فقيرة لكنها متدينة، فأبوه وجده من حفاظ كتاب الله، ومدرسيه، عالمين بالدين واللغة العربية.

حفظ العربي القرآن الكريم على يد والده، والتحق سنة 1324هـ/ 1907م بزاوية سيدي ناجي بالاوراس، ومنها انتقل بتوصية من شيوخه فيها إلى زاوية مصطفى بن عزوز بنفطة سنة 1327هـ/ 1910م، والتي كانت ذائعة الصيت؛ خاصة أن خريجيها كان بامكانهم الالتحاق مباشرة بالزيتونة وبغيره، وهو ما حدث للعربي؛ فبعدما أتم تكوينه بالزاوية في مختلف العلوم من فقه ومنطق وأصول، وفنون اللغة العربية، والأدب، وعلم الكلام.. التحق بعدها بالزيتونة سنة 1331هـ/ 1914م، ونال شهادة الأهلية بعد بضع سنوات من الاجتهاد والمثابرة والتحصيل، ورحل إلى القاهرة في حدود سنة 1339هـ/ 1920م، حيث انضم لطلبة الأزهر الشريف، وحصل على شهادة العالمية، واستغل فرصة وجوده بمصر ليحضر حلقات العلم، ويزور المكتبات، وذلك إلى غاية سنة 1347هـ/ 1927م حيث عاد فيها إلى تونس للحصول على شهادة التطويع المؤهلة لمباشرة مهنة التدريس.

عودته للجزائر ونشاطه بها:

     قضى العربي التبسي حوالي سبعة عشر (17) سنة خارج الجزائر، وهبها لتحصيل العلم، وتوسيع المدارك، والتفقه في مختلف الفنون والعلوم؛ لاسيما الشرعية منها، وكأنه ابتغى بناء قاعدة فكرية وروحية في نفسه؛ اولا من اجل مهمة شاقة ونبيلة يحققها لوطنه لاحقا. وهو ما حدث فعلا بعودته للجزائر سنة 1347هـ/ 1927م، حيث شرع في الوعظ والتدريس للكبار والصغار في مسجد صغير (ابن سعيد) بمسقط رأسه، ولما ضاق بالناس انتقل إلى مسجد المدينة (العتيق) الذي تشرف عليه الادارة الاستعمارية؛ فضايقته واوقفته فعاد ثانية إلى المسجد الأول. واشتملت دروسه تلك على مختلف علوم الفقه والسيرة والتاريخ الاسلامي.. الخ، وجمع بين الحديث في أمور الدين والدنيا، لكنه سرعان ما تعرض مرة اخرى للمضايقة من قبل أعداء الدعوة الإصلاحية من طرقيين، واعوان للادارة الاستعمارية؛ خاصة لما كثر عدد المواظبين على حضور دروسه، والمتأثرين بأفكاره. ولما ضاق به الحال عمل بنصيحة الشيخ ابن باديس له، وانتقل إلى مدينة سيق بالغرب الجزائري ابتداءً من سنة 1930م مديرا لاحدى مدارسها الابتدائية، ومدرسا بها، وكان له أكبر الأثر في بث روح الاصلاح في تلك الجهة من الوطن كان قد انضم إلى مجموعة العلماء الرواد؛ في إطار مساعي تكوين جمعية دينية إصلاحية.

    وقد لفت الشيخ التبسي الأنظار إلى نشاطه الحثيث قبل وبعد ظهور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي كان له دور ومساعي في تأسيسها، وكان نائبا لكاتبها العام، وقد طلب اليه اهل تبسة بالرجوع اليهم، فعاد سنة 1933م، وشرع في التحضير لافتتاح مدرسة “التهذيب” للبنين والبنات في السنة الموالية (1934م). ولم يلبث الشيخ التبسي ان اختير لتقلد منصب الكاتب العام للجمعية خلفا للشيخ الامين العمودي، وذلك سنة 1935م، وتولى ايضًا رئاسة لجنة الافتاء نظرًا لزاده الفقهي والعلمي، واستمر على ذلك إلى غاية اندلاع الحرب العالمية الثانية. وبعد وفاة الشيخ ابن باديس سنة 1940م انتخب الشيخ التبسي نائبًا للشيخ الإبراهيمي، وكانت له مساعي كبيرة باسم الجمعية داخل ائتلاف حركة أحباب البيان والحرية (AML)؛ مما عرضه للسجن بتهمة التآمر مع الألمان ضد الدولة الفرنسية، وسجن لمدة ستة أشهر، وتكرر اتهامه بالتحريض على التمرد في ماي 1945م فاعتقل، ولم يفرج عنه الا مع صدور قانون العفو العام سنة 1946م.

    عاد الشيخ بعد اطلاق سراحه إلى التدريس بالجامع الأخضر بقسنطينة، كما أنه تولى الإشراف على جمعية التربية والتعليم التابعة للجمعية، والتي تم نقل مقرها مؤقتا إلى تبسة، وبعد افتتاح معهد الشيخ ابن باديس سنة 1947م عيّن التبسي مديرا له، ومما قال في الكلمة الافتتاحية ما يلي: “.. أيها الإخوان ان التعليم بوطنكم هذا في أمتكم هذه ميدان تضحية وجهاد، لا مسرح راحة ونعيم، فلنكن جنود العلم في هذه السنة الأولى، ولنسكن في المعهد كأبنائنا، ولنعش عيشهم، عيش الاغتراب عن الأهل فانسوا الأهل والعشيرة، ولا تزوروهم إلا لماما، أنا أضيقكم ذرعا بالعيال وعدم وجود الكافي، ومع ذلك فها أنا فاعل فاعلوا وها أنا ذا بادئ فاتبعوا”.

   وقد اعترض أهل تبسة على ذلك إلى أن خاطبهم الشيخ الإبراهيمي، وقال هذا الاخير عن ذلك: “أرضينا سكان تبسة الكرام الذين كانوا يعدون انتقال الاستاذ التبسي عنهم كبيرة يرتكبها من يتسبب فيها، وأقنعناهم بأن الشيخ العربي رجل أمة كاملة؛ لا بلدة واحدة، ورجل الاعمال العظيمة لا الأعمال الصغيرة فاقتنعوا، وأمنا لهم مشاريعهم العلمية والدينية بايجاد من يخلف الأستاذ فيها فرضوا مخلصين..”

  وبقي مديرا للمعهد حتى اغلاقه اواخر سنة 1956م من طرف الادارة الاستعمارية. ورغم أنه قد جمع مسؤوليات عدة في آن واحد ابتداءً من سنة 1952م حين تولى رئاسة الجمعية نيابة عن الشيخ الإبراهيمي الذي كان في المشرق، فانه استمر أيضا في متابعة شؤون التعليم بالعاصمة، وأشرف على جريدة “البصائر”، بالاضافة إلى ادارة المعهد الباديسي كما سبق، وذلك إلى غاية اختطافه.

موقفه من الثورة:

    تجب الاشارة إلى استجابة الشيخ التبسي السريعة لنداء الثورة، وفي هذا الشأن تذكر المصادر حدوث اتصالات بينه وبين قادة الثورة، لاسيما أنه شخصيا دعا إليها منذ أمد بعيد، وقد دعا إلى تلبية نداء الجهاد الذي رفعه الثوار المجاهدون، وقد رصد التبسي أحداث أول نوفمبر 1954م على لسان الجمعية في مقال “حوادث الليلة الليلاء” حيث كتب قائلا: “فوجئت البلاد الجزائرية بعدد عظيم من الحوادث المزعجة وقعت كلها ما بين الساعة الواحدة والساعة الخامسة من صبيحة الاثنين غرة نوفمبر، وهو عيد ذكرى الاموات، ولقد بلغ عدد تلك الحوادث ما يزيد عن الثلاثين ما بين الحدود التونسية وشرقي عمالة وهران، إلا أن عمالة قسنطينة؛ وخاصة جهتها الجنوبية كانت صاحبة المقام الأول فيها، وكادت تتركز الحوادث في جهات جبال أوراس في خط يسير من باتنة إلى خنشلة ثم يشمل الجنوب.. إننا لحد هذه الساعة لا نملك التفاصيل المقنعة عن هذه الحوادث وأسبابها، وليس بين أيدينا إلا ما تناقلته الصحف وشركات الأخبار؛ فلا نستطيع أن نعلق عليها أدنى تعليق إلى أن تتبين لنا طريق الصواب، فليس من شأن “البصائر” أن تتسرع في مثل هذه المواطن.. لكننا من جهة أخرى رأينا أنه لا يمكن أن يخلو هذا العدد من جريدتنا من ذكر هذه الحوادث التي تناقلت صحف العالم بأسره تفاصيلها، فقرننا الاكتفاء بذكر أهمها، ولسوف نتتبع ذلك بغاية الدقة والاهتمام..”

     وفعلا تابع الشيخ التبسي باهتمام مستجدات الساحة السياسية بالجزائر، وكتب في نهاية نوفمبر 1954م ما يلي: “… ما هذا ايها القوم؟ إن الساعة ساعة جد، وليست ساعة هزل، إنني لا أدافع عن مذياع القاهرة، ولا عن مذياع واشنطن؛ لكنني أقول وأؤكد أنه لا يوجد مذياع في الدنيا بلغت قوته ما بلغت أن يحدث حركة انتفاض في أي أمة من الأمم، وفي أي بقعة من بقاع الأرض؛ فإذا ما أردت أن تعرف سبب وقوع الحوادث ففتش عن تلك الأسباب بكل دقة، وبكل حكمة، وبكل نزاهة فوق أديم الأرض التي وقعت عليها، وبين ما تنطوي عليه جوانح أهلها من آلام الحرمان والبؤس”.

    وكتب مقالا بعنوان “كتاب الأدغال”على صفحات “البصائر” بتاريخ 18 فيفري 1955م قال فيه: “وتململوا وتحركوا، ودبت فيهم روح الحياة الحرة الجامحة التي تحطم كل معترض مهما كان قويًا عاتيًا، وتقدموا إلى الأمام يخوضون معركة الحياة، وقد حملوا أرواحهم فوق أيديهم؛ فيزحفون إلى الأمام، ولا يتقهقرون أبدًا إلى خلف، وقد علموا أن حياة لا عزة، ولا شرف، ولا علم فيها، ولا عمل، ولا حكم فيها ولبنيها، ولا سلطان فيها لذويها، إنما هي حياة خسة ومذلة أفضل منها الموت العزيز والفناء الشريف”.

اغتيالــه:

     لقد أثار نشاط الشيخ التبسي منذ عودته إلى الجزائر سخطًا عظيمًا لدى السلطات الاستعمارية؛ التي رأت فيه شخصًا عنيدًا لا يلين في الدفاع عن قضيته، خاصة أنها لمست آثار دعوته الاصلاحية، وفي إنارة الوعي الجزائري في كل المناطق التي زارها، او درَس بها؛ الأمر الذي جعل الشيخ محل متابعة ومضايقة وترصد، وما زاد الأمر تعقيدًا فشل محاولات الترغيب والوعيد التي قامت بها، فوجدت نفسها أمام شخصيته الصلبة المؤيدة لرفع راية الجهاد، ودعم الثورة، فلجأت الإدارة إلى تدبير حادث اختطافه مساء يوم الخميس 04 أفريل 1957م، ومن ثمة اغتياله بوحشية بعد أيام من التعذيب والتنكيل، وبقي قبره مجهولًا. وقد نقلت “البصائر” عن تفاصيل الحادث ما يلي: “في مساء يوم الخميس 04 رمضان 1376هـ الموافق 04 أفريل 1957م، وعلى الساعة الحادية عشر ليلا اقتحم جماعة من الجند الفرنسيين التابعين لفرق المظلات.. سكنى فضيلة الأستاذ الجليل العربي التبسي؛ الرئيس الثاني لجمعية العلماء، والمباشر لتسيير شؤونها، وأكبر الشخصيات الدينية الاسلامية بالجزائر؛ بعد أن حطموا نوافذ الأقسام المدرسية الموجودة تحت الشقة التي يسكن بها بحي بلكور طريق التوت…، وكانوا يرتدون اللباس العسكري الرسمي للجيش الفرنسي.

  وقد وجدوا فضيلة الشيخ في فراش المرض الملازم له، وقد اشتد عليه منذ أوائل شهر مارس، فلم يراعوا حرمته الدينية، ولا سنه الكبيرة، ولا مرضه الشديد، وأزعجوه من فراش المرض بكل وحشية وفظاظة، ثم أخذوا في التفتيش الدقيق للسكن..، ثم أخرجوه حاسر الرأس حافي القدمين… ولكن المفاجلأة كانت تامة عندما سئل عنه في اليوم الموالي بعده في الادارات الحكومية المدنية والعسكرية والشرطية والعدلية؛ فتبرأت كل إدارة من وجوده عندها أو مسؤوليتها عن اعتقاله أو من العلم بمكانه”.

آثـــاره:

  تنوعت آثار الشيخ التبسي المنشورة في جرائد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومجلة الشهاب وصحيفة النجاح، وتناولت إجمالا محورين هامين في بناء الإنسان الجزائري المعاصر؛ هما: الجانب الفكري الخاص بتقويم الأخلاق والسلوكيات، وطلب العلم، وتصحيح العقيدة من الشوائب والبدع المستحدثة، والتفطن للمكائد المدبرة من طرف أعداء الدين والوطن. والجانب العملي تضمن كل ما يتعلق بالإخلاص في أداء الواجبات، وتحمل المسؤوليات، ومحاربة الآفات الاجتماعية، والسعي للتغيير الايجابي، والاقتداء بالعلماء الصالحين. ورغم ذلك فإن الرصيد التراثي للشيخ التبسي لم يكن غزيرا؛ نظرا لالتزامه بالتدريس، وانتهاجه أسلوب التلقين الشفهي.

بقلم: دنفيسـة دويـدة*
*المدرسة العليا للأساتذة بوزريعة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى