لم يكد أمر قريش ينتظم في اجتماعها حتى صارت أكثر قبائل العرب منعة، يدير شؤونها شيوخها في دار الندوة – وذلك مظهر متقدم من مظاهر الحكم الجماعي- وتوزّعت الوظائف الاجتماعية على بطونها: منهم المكلّفون بالحرب ومنهم المكلّفون بقوافل التجارة ومنهم المكلّفون بسدانة البيت ومنهم المكلّفون بسقاية الحجاج
وعلى الرغم من وجودها بعيدة عن مراكز القوى العالمية المتغالبة –مثل روما وأثينا والمدائن- إلاّ أنّ حاكما في اليمن يتبع مملكة أكسيوم ويدين بالولاء لبيزنطة النصرانية- أعلن الحرب على العرب التي تدين بولائها الديني لقريش، وفكرّ في هدم الكعبة، مهوى أفئدتهم ومعقد انتمائهم وذكرى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فيهم.
وفي القصة ما يشير إلى أنّ الحادثة كانت حربا دينية، شبيهة بالحروب الصليبية، قادتها الكنيسة قبل ظهور الاسلام، وجنّدت لها أبرهة الحبشي، يقول عنه سكوت فيتزجرالد: “كان تعصبه للمسيحية”. وفي ذلك دلالة متجدّدة على أنّ عدم الاستقرار في بلاد العرب سببه التآمر الكنسي بإشعال الحروب الدينية.
والقصة يثبتها القرآن الكريم –وكفى به مصدّقا- في قوله تعالى((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)) سورة الفيل1-5.
وفي بيانها المعجز ما يشير إلى صفتهم فهم أصحاب الفيل، وإلى غايتهم وهي الكيد، وإلى عقابهم بحجارة السجيل، وإلى نهايتهم مغلوبين كالزرع المأكول. وقد أسند صاحب التحرير والتنوير خبرا “عن عائشة وعتاب بن أسيد :رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس”. وفيه مزيد إثبات تاريخي.
وقد كان للمفسرين والباحثين آراء ثلاثة” فبعضهم أثبت الحادثة وجعلها في عام مولد محمد -صلى الله عليه وسلم- وهي عندهم من معجزات النبوة الخاتمة قبل أن تكون، وبعضهم أثبتها ولكن تأوّل معنى الطير الأبابيل وحجارة السجيل بالجدري والحصبة التي أصابت جيش أبرهة، وبعضهم أنكر وقوعها لأنهم استعظموا خروج الفيل في الصحراء ونسوا أنّ حنيبعل قاد الفيلة في جبال الألب.
وليس ذلك الذي يعنينا، بل يعنينا استنباط معنى آخر هو أوكد، إنّ رجلاً هاشمياً من بني إسماعيل عليه هيبة ووقار لم يفقد رباطة جأشه يوم انهزمت العرب كلّها، أضاء بيته بمن سيغيّر تاريخ الإنسانية كلّها. وكذلك السنن الجارية توهب النعم لمن يستمسك بالعزائم في لحظات الانكسار.
فهل يكون في العرب أمثال عبد المطلب وقد تكالبت عليهم الأمم كأصحاب الفيل؟
بقلم : د/ بورديم عبد الحفيظ