مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
أحداث دولية

قضاؤها تحوّل إلى أداة انتقام وقمع في أيدي الانقلابيين مصر تتفوق على الأنظمة الفاشية بأضخم أحكام إعدام في التاريخ

LAGRAA

يحق الآن لمؤسسة “غينيس للأرقام القياسية العالمية أن تصنف أحكام الإعدام التي أصدرها القضاء المصري مؤخراً بحق 529 متهما، في كتابها الشهير، فهي أضخم أحكام إعدام في التاريخ بحسب المنظمات الحقوقية الدولية ولم يسبق أن أصدرت محاكم مماثلة في أي بلد عدداً قياسياً من الأحكام بالإعدام بحق متهمين في ظرف جلستين اثنتين فقط، حتى الدول الفاشية التي لا تعرف أي شكل من أشكال حقوق الانسان، لم تفعل ذلك في تاريخها.

بقلم: حسين لقرع

تؤكد الأحكام الصادرة ضد 529 من أعضاء جماعة “الإخوان المسلمين” وقياداتها من مختلف الدرجات، أن القضاء المصري قد قرّر أن يتخلى نهائياً، جهاراً نهاراً، عن أي استقلالية له، حتى ولو كانت شكلية، وأن يتحوّل إلى مجرّد أداة في أيدي الانقلابيين يوظفونه كما يشاؤون في خدمة أهدافهم القمعية الرامية إلى إخماد إنتفاضة الإخوان المستمرة منذ 3 جويلية 2013 إلى الآن، بأي وسيلة كانت.

  كان الجميع يعرف أن القضاء المصري إختار الانحياز إلى الانقلاب منذ شهور، بالنّظر إلى المحاكمات التي يقيمها للإخوان، وفي مقدمتهم الرئيس مرسي، على أساس تهم ملفقة سخيفة لا يتقبلها العقلُ السليم، ومنها على سبيل المثال إتهام مرسي بـ”التخابر مع حماس” و”سرقة الدواجن من سجن النطرون” واتهام نجله بـ”المتاجرة بالمخدرات”.. ولكن أن يصل انحيازه إلى درجة أن يسمح لنفسه بأن يتحوّل إلى أداة قتل غير مسبوقة في التاريخ ويصدر أحكاماً جماعية ضخمة بإعدام أعداد كبيرة جداً من المتهمين، فهذا ما لم يكن يخطر على بال أحد، وكان بحق مفاجأة مدوية.

  تُرى، كيف يسمح هذا القضاء بأن يعالج قضايا 529 متهماً في ظرف جلستين اثنتين فقط ثم يُصدر أحكامه بإعدامهم كلهم؟ هل تكفي، منطقياً، جلستان اثنتان لأي قاضي، مهما أوتي من علم ودراية واسعة بالقانون وخبرة بعمله، بأن يعالج قضايا كل هؤلاء المتهمين في ظرف جلستين والحال أن قضايا متهم واحد قد تتطلب جلسات عديدة وتأجيلات عديدة لقضيته للاطلاع أكثر على تفاصيلها؟

  الواضح أن هيئة المحكمة التي أصدرت هذه القرارات الخطيرة، قد عالجتها على عجل، ونظرت إليها من منظور سياسي بحت، ورفضت اتّباع الاجراءات القانونية المتعارف عليها دولياً، ومنها الاستماع إلى ردود المتهمين ومحاميهم، وتمكينهم من الوقت الكافي لذلك حتى تكون المُحاكمات عادلة نزيهة، ولكن يبدو أن القضاء المصري لم يعد يكترث بالنزاهة والحياد بعد انقلاب 3 جويلية 2013، وكل ما أصبح يهمّه هو التسابق إلى إظهار عرابين الولاء المطلق للنظام الانقلابي، ومزايدة القضاة على بعضهم البعض في خدمته: أيهم أكثر تنكيلاً منهم بالاخوان وأكثر قمعاً لهم من بقية القضاة؟ وهذا حتى ينالوا حظوة لدى النظام الانقلابي الدموي. ولذلك لا غروَ أن تصدر أحكام بإعدام هذا العدد “المهول” من المتهمين الإخوان، فهم بلا قيمة في نظر هؤلاء ويمكن إهدار حياتهم بكل بساطة ودون تمكينهم من الدفاع عن أنفسهم وتمكين محاميهم من ذلك كما تنص أبسط الأعراف والقوانين.

 لا فرقَ إذن بين إعدام مئات المعارضين خارج إطار القضاء كما تفعل الأنظمة الفاشية، أو إعدامهم بعد محاكمات صورية سريعة لا معنى لها، فالنتيجة واحدة، ولكننا كنا نعتقد أن تقدّم مسائل حقوق الانسان في السنوات الأخيرة قد جعل المحاكمات الصورية جزءاً من التاريخ فقط، وأن الأنظمة القضائية لمختلف الدول أصبحت تتحرّج من السقوط في ممارسات أنظمة بينوشي والأنظمة العسكرية الأمريكو لاتينية والدول الشيوعية الشمولية السابقة التي كانت سائدة بقوة في القرن العشرين، كنا نعتقد أن هذه الممارسات الانتقامية المهينة لكرامة الانسان وحقوقه قد ولّت في القرن الواحد والعشرين إلى غير رجعة، وأن أحكام الإعدام لم تعد تصدر ضد أيّ شخص إلا بعد إجراءات قانونية طويلة وجلسات محاكمة عديدة، لاسيما وأن الأمر يتعلق بأرواح بشرية وهي ليست هيّنة رخيصة، ولكن القضاء المصري أبى إلا العودة إلى ممارسات الأنظمة الفاشية المتخلفة بإصداره أحكاما بإعدام 529 شخصا دفعة واحدة، ودون أي اكتراث بردود فعل المنظمات الحقوقية الدولية والعالم كله.

قلناها مراراً منذ البداية: إن الصمت المريب الذي أظهره العالم إزاء المجازر والانتهاكات الحقوقية اليومية المرتكبة ضد المتظاهرين المحتجين بمصر منذ انقلاب 3 جويلية إلى الآن، هو الذي شجّع الانقلابيين على التمادي في أعمال القتل والقمع والاضطهاد والتنكيل بحق ملايين المصريين إلى حدّ الساعة، فقد قُتل آلاف المعتصمين والمتظاهرين في “رابعة العدوي” و”النهضة” وأمام ثكنة الحرس الجمهوري، وغيرها من المظاهرات وأحرقت جثثُ بعضهم وجُرفت بالجرافات في رابعة العدوية، دون أن تخرج هذه المجازر الوحشية العالم عن صمته ويدين ما يحدث ويتحرك بفعالية لايقافها، كما تحدث أعمال قمع يومية للمظاهرة ومطاردات وقتل دون أن يتحرك العالم، والآن تصدر أحكام إعدام ضد المئات من المسجونين دون أن ينتهي الصمتُ الدولي والتواطؤ مع القتلة. ترى ما الذي ينبغي أن يحدث حتى يتحرك المجتمع الدولي ويتحمل مسؤولياته في فرض احترام الحد الأدنى من معايير حقوق الانسان على الجميع في العالم؟.

  لقد كانت الآمال كبيرة عقب ثورة 25 يناير 2011 باقامة عدالة مستقلة قوية ونزيهة في مصر، تحاكم فاسدي النظام السابق وقتلة متظاهري الثورة وناهبي مال الشعب، وتبسط العدل في ربوع البلد، لكنها أفرجت عن مبارك والعديد من الفاسدين والقتلة، والباقي في الطريق، وبالمقابل هاهي تمعن في التنكيل بالمتظاهرين المستضعفين وتنكل بهم وتصدر أقسى العقوبات بحقهم، لا لشيىء إلا لأنهم رفضوا الانقلاب الدموي وتمسكوا بالشرعية، وقد رأينا ذلك القاضي على شاشات التلفزيون وهو يقرأ حيثيات حكم الإعدام الجماعي ويبرّره بمبرات واهية، وكان وجهه يطفح بمشاعر الكره والحقد والغلّ الأعمى وكأنه خصمٌ وليس قاضيا ينبغي أن يكون محايدا ومنصفا، وقد تضمن حكمه الكثير من آرائه السياسية المعادية للإخوان والمؤيدة للانقلاب، دون أن يشعر القاضي بأنه يخالف القانون.

  انتهت العدالة في مصر، وتحوّل القضاء فيها إلى مجرد أداة للثأر والانتقام من الخصوم، ومعها تطلق آخرُ رصاصات الرحمة على ثورة 25 يناير 2011 للأسف الشديد، ولم يعد أمام المصريين سوى المزيد من الصمود ودفع المزيد من التضحيات الجسيمة لاستعادة الثورة ودحر الانقلاب مهما طال ليلُ الظلم.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى