حقائق هذا الدين قد يُضيّعها الجهل، أو تطوِّح بها نزوات الأتباع، أو تلتبس مع طموح بعض من أخلص، في ارتقاء مدارج السلوك والصلاح، الذي يقترن عادة بالتجرّد والتزهّد في المباح، فيحسب تابع أن اختيارات مَن هذا شأنهم إنما هي عزائم رشد، تلزم كل مسلم أن يفقهها، وأن يعمل بموجبها، ولذلك ساد اعتقاد في بعض الفترات بتمجيد الفقر وأهله، والحط من قدر كل غني، ولو كان تقيا، لمجرّد أن الله خصّه ببعض الفضل، وضاعف من هذا المزاج اعتناق أو استيرادٌ لأفكار تُفاضل بين الناس على أساس الخصاصة، وتَبيّن لاحقا أن معظم أصحابها كانوا ذوي نفسيات غير سوية، وأن حب الانتقام كان دافعَهم إلى غير قليل من الظلم والقمع الذي أوقعوه بشعوب كثيرة.
أخرج البخاري (7/63)عن مالك بن أوس عن عمر رضي الله عنه: “أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيع نخل بني النضير، ويحبس لأهله قوت سنتهم“. وقد ترجم البخاري للحديث بالقول: “باب حبس نفقة الرجل قوت سنة على أهله، وكيف نفقات العيال“.
لسنا ندري لِم يشتهرُ بين الناس حديث صُحِّح -لكنه لم يُخرّج في أحد الصحيحين- مفاده أن النبي صلى الله عليه وسلملم يكن يدّخر شيئا، ولا يلتفتون إلى حديث الادخار لمدة عام، وهو مخرج عند البخاري ومسلم.
ولسنا ندري لِم شاع بين الناس أن الإسلام يترك أهله وأتباعه هملا من غير تخطيط لحياة، أو تحسّبٍ لمستقبل، أو توقّع لمشكلة أو فاقة، ونحن نرى الآخرين يذهبون بعيدا في هذا الأمر، حتى ما يدَعون شيئا إلا توقعوه أو تحسبوا له، إن كان خيرا فللحفاظ عليه، وإن كان شرا فلمنعه، أو للتقليل من خسائره، ونحن نفهم أن ينحاز آحاد ممن أنهكهم الترف والمجون بعد التوبة إلى الرغبة عن كل متاع، لكن أن يُنسب هذا الاختيار إلى الدين، أو أن تقوم سياسة مجتمع على أساسه: فأمر مستنكر، تأباه عقول وطباع الأسوياء.
ما جاء به القرآن على لسان سيدنا يوسف -قبل آلاف السنين- من تخطيط للسنوات العجاف في غاية الحسن، بالرغم من أنه بنى تفسيره على مجرد رؤيا في المنام رآها الملك، أما ما يجري اليوم في العالم فتنبؤات يسهر عليها خبراء في كل علم وفن، وتخضع للدراسة من قبل الساسة والمفكرين، وتقوم على أساسها خطط لعقود تُستقبل، ثم تُشكِّك أفكار-ينتجها التخلف وتنتسب للدين- في شرعية أي سلوك ينتمي للعصر، أو يرجى به اللحاق بركب المتقدمين.
إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطط لطعام أسرته لمدة عام، في أرض تقوم الحياة البسيطة فيها على مجرد الحبوب -قبل أربعة عشر قرنا- أفلا يدفعنا هذا الأمر إلى البناء والقياس عليه، في عالم باتت بعض الحروب فيه تُشنّ بالعقوبات الاقتصادية بدلا من الأسلحة الفتاكة، وبالحصار ومنع الطعام والشراب على عموم الناس، لدفعهم للتفريط والتنازل؟!
نقل ابن حجر في الفتح (9/503) عن ابن دقيق العيد قوله إن في الحديث: “الادخار للأهل قوت سنة، وفي السياق ما يؤخذ منه الجمع بينه وبين حديث (كان لا يدخر شيئا لغد) فيُحمل على الادخار لنفسه، وحديث الباب علىالادخار لغيره، ولو كان له في ذلك مشاركة…” وأحسن منه ما ذهب إليه ابن كثير في البداية والنهاية (6/61) من أن “المراد أنه كان لا يدخر شيئا لغد، مما يسرع إليه الفساد كالأطعمة ونحوها..”
وقال النووي في شرح مسلم (12/70-71): “وأجمع العلماء على جواز الادخار فيما يستغله الإنسان من قريته، كما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم، وأما إذا أراد أن يشتري من السوق ويدخره لقوت عياله، فإن كان في وقت ضيق الطعام لم يجز، بل يشتري مالا يضيق على المسلمين، كقوت أيام أو شهر، وإن كان في وقت سعة اشترى قوت سنة وأكثر، هكذا نقل القاضي هذا التفصيل عن أكثر العلماء، وعن قوم إباحته مطلقا..”
وذكر ابن حجر أن: “التقييد بالسنة إنما جاء من ضرورة الواقع، لأن الذي كان يُدخر لم يكن يحصل إلا من السنة إلى السنة، لأنه كان إما تمرا وإما شعيرا، فلو قُدِّر أن شيئا مما يُدخر كان لا يحصل إلا من سنتين إلى سنتين لاقتضى الحال جواز الادخار لأجل ذلك..”
علماء الأمة قبل قرون يحيلون إلى الواقع المتغير، ويتأولون بعض النصوص جمعا بين الأحاديث، خشية الإهمال، ولا يزال بعضنا يصر على العودة إلى بعض الفهوم التي ما كانت تساير الواقع الذي كانوا يعيشون فيه، فإذا بنا نتبنّى فتواهم لواقع يكاد التغير فيه يحدث كل ساعة.