تشهد القضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة تراجعا متواصلا في سلمّ اهتمامات العرب والمسلمين، سواء تعلق الأمر بالأنظمة الحاكمة أو بالإعلام والنخب أو الشعوب، فلم تعُد فلسطين هي القضية المركزية والأولى للعرب وانحسر الإهتمامُ بها والتفاعلُ مع الأخبار القليلة الواردة منها، ولم تعد تصنع نقاشات الناس أو تثير المشاعر والاهتمام والتعاطف كما كان الأمر في العقود الماضية.
بقلم: حسين لقرع
منذ عقود قليلة، كانت فلسطين هي قضية العرب الأولى وخاض العرب ثلاثة حروب من أجل استعادتها وبقية الأراضي المحتلة، وكانوا يعقدون لأجلها القمم والمؤتمرات والاجتماعات، وكانت تحظى باهتمام رسمي عربي كبير، ودعم مادي وإعلامي معتبر، وتعاطف شعبي منقطع النظير.
اليوم انقلبت الأمور رأساً على عقب وبدأ وهجُ القضية يخفت تدريجياً منذ توقيع اتفاق أوسلو في سبتمبر 1993، وبدأ الدعمُ الرسمي للقضية ينحسر باستمرار إلى أن توقف تقريباً في الأعوام الأخيرة وانكفأ كل نظام عربي على بلده ولم يعد يتحدث عن القضية وضرورة اقامة الدولة الفلسطينية على حدود أراضي 1967 على الأقل كما كان الجميع يردد من قبل، أما دعم المقاومة فقد أصبح من المحرّمات في قاموس هذه الأنظمة التي باتت تخشى غضب أمريكا أكثر مما تخشى غضب الله عليها لاضاعتها الأقصى وفلسطين.
وبالنتيجة، تراجع الحديثُ عن فلسطين في الإعلام الرسمي العربي، وأصبحت أخبارُها القليلة تبث في ذيل النشرات الرسمية التي لا يتابعها سوى القليل لإغراقها في الرسميات ولغة الخشب وتمجيد أصحاب السمو والفخامة. وأضحى هذا الإعلامُ يتحدث فقط، بين الفينة والأخرى، عن كل ما يمتّ بصلة إلى “السّلام” مع الصهاينة، ويتجنب الحديث عن المقاومة في غزة، أو يتطرّق إليها على عجالة وبطريقة “محايدة” جافة لا تختلف عن أي أخبار دولية أخرى، ولا تترك أيّ أثر في المشاهد.
ومع أن الفضائيات “المستقلة” أنقذت الموقف منذ التسعينيات وأفردت للقضية الفلسطينية حيّزا هاما من أخبارها وبرامجها التحليلية والحوارية وحصصها المختلفة، إلا أن إندلاع موجة “الربيع العربي” في جانفي 2011 وتوالي اندلاع الثورات في تونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن وسوريا، جعلها تحوّل جلّ اهتمامها لمتابعة هذه الثورات وتغطيتها لحظة بلحظة، وتدحرجت أخبار فلسطين إلى الدرجة الثانية بل إلى ذيل النشرات في الكثير من المرات، وكانت النتيجة أن الاهتمام بفلسطين قد قلّ لدى الشعوب العربية إلى أدنى درجة.
ويمكن التأكّد من مدى تراجع القضية الفلسطينية لدى الشعوب من خلال تصفح أخبارها على الأنترنت والمقالات التي تُكتب عنها ودرجة تفاعل المواطنين العرب معها بالقراءة والتعاليق؛ فالكثير من الأخبار والمقالات المهمة لا تحظى بنصيبها من القراءة والتعاليق، بل إن بعضَها لا يتجاوز عددُ قرائها المئات وعددُ التعاليق أصابعَ اليد الواحدة، في حين تحظى أخبار الفنانين والجريمة والرياضة والمنوعات… بعشرات الآلاف من القراءات وبمئات التعاليق.
وحتى في سلمّ الأخبار والمقالات التي تتناول القضايا العربية، تأتي أخبارُ الضفة وغزة في ذيل الترتيب، قراءة ً وتعاليقَ، في حين تحظى المواضيع التي تتحدث عن الفتن الطائفية بنسب عالية من القراءة والتعاليق. حتى أخبار اشتداد الحصار على غزة من الجانبين الصهيوني والمصري هذه الأيام لا تكاد تُقابل باكتراث الشعوب واهتمامها كما تهتم بأخبار الثورة السورية وغيرها.
وفي ظل انصراف اهتمام العرب، أنظمة وشعوباً ونخباً، عن القضية الفلسطينية، يواصل العدوُّ الصهيوني تنفيذ مخططاته الرامية إلى تهويد القدس وتقويض أساسات المسجد الأقصى وابتلاع المزيد من أراضي الضفة بتكثيف البناء الاستيطاني، وكذا مواصلة حربه المتقطِّعة على المقاومة في غزة، وهو في راحة من أمره، فقد أدرك العدوّ أن جرائمه لم تعد تثير إهتمامَ الشعوب العربية وسُخطها، وأن المظاهرات الصاخبة التي نظمتها في عام 2009 ضد عدوانه على غزة والمقدسات، أصبحت من “الماضي” الآن، بدليل أن اقتحامات المستوطنين للأقصى في الأيام الأخيرة مرّت دون أيّ إستنكار شعبي عربي وحتى دون تغطية إعلامية من كبرى الفضائيات العربية، فشجّعه ذلك على مواصلة مخططاته وجرائمه وهو مطمئن إلى أن ردود الأفعال آخذة في الانسحار والضعف بمرور الوقت ولا شيىء يجبره على الإحجام عن مواصلتها.
وإذا تواصل غياب الاهتمام الشعبي والإعلامي العربي بفلسطين على هذا المنوال فسيستفيق الجميع ذات يوم على نبإ هدم المسجد الأقصى والشروع في اقامة الهيكل المزعوم بدله. تُرى هل من حدث جلل أو “ثورة” توقظ الشعوب النائمة المخدّرة من سباتها وتعيد إليها الوعي والاهتمام بقضيتها المركزية؟ نأمل ذلك يوماً.