يسألك أهل العقل والحجى، عن واقع مصر الكنانة اليوم، لاسيما في مرحلة جزرها بعد مدّ، وهوانها بعد ودّ، فقل إنّها سفينة فقدت ربّانها. فهي تتلاطمها أمواج الهوى العاتية، وتتجاذبها رياح الإعصار القاضية.
فيا سائلاً عن مصرنا العزيزة، في عصرها المتردّي، قُلْ إنّها فقدت مناعتها الحضارية الحصينة، واستسلمت لوباء جراثيم دخيلة ودفينة. فقدت شوارعها نسمة النيل العليلة، فتلوثت بالغاز المسيل للدموع، واستبدّ بها بطش السلاح المفرِّق للجموع، فالجامعات في غليان قاتل، والأهرامات في تفكك هائل. إنّ الخوف قد سكن الشباب الثائر، وزُّج –في زنزانات السجون- بالأحرار والحرائر.
ماذا دهى مصرنا العزيزة، وقد كانت قبلة العرب والمسلمين، في العلم والدين والسياسة؟ وأيّة عين حسود أصابت مفاتنها ومقاتلها، فأحبطت تقاليدها المعهودة في السياحة والكياسة؟.
إنّ مصر اليوم –مما تعانيه- في موقع لا تحسد عليه، فقد أصابها لباس الجوع والخوف، بعد أن كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كلّ مكان. انقلبت مصر الأزهر والأهرام على معالمها، فصارت تعتقل فتياتٍ في عمر الزهور، وتنكل بالعلماء والدعاة لأتفه الأمور، فانحبس عنها السيّاح، وشاع في أرجائها البكاء والنواح.
يا لله لمصر التي كنّا نأتيها خفافًا وثقالاً، فنتزوّد بخير الزاد فيها؛ وهو العلم القائم على التقوى، ونتسلى بالدعابة الخفيفة العفيفة للتخفيف من الشقوة والبلوى، لماذا أظلمت سماء مصر؟ ولماذا انزوت تحت ضربات أيّام الجمر؟.
لقد كانت أرض الكنانة آمنة مطمئنة، تتعايش فيها كلّ الطوائف والأقليات، فدبّت العقارب إلى صفوف أبنائها وهم أقارب، فتعكّرت المشارب وتلوثت المسارب، فأضحى من أبنائها القتيل، والسجين والهارب.
وما كنّا نريد –علم الله- لمصر، أن يفعل بها أبناؤها ما لا يفعله بها أعداؤها.
فيشيعون فيها القتل، والسحل، والختل، ولا سبب لذلك إلاّ هاجس الأطماع السياسية، ودوافع المكائد الخارجية، وشيوع العمالة للمخططات العدوانية الصهيونية.
ما كان أغنى مصر عن كلّ هذا الشقاق بين الإخوة والرّفاق! وما كان الأجدر بهم أن يتساموا عن الحزازات السياسية الضيّقة، والدسائس الإيديولوجية الممزِقَة!.
هل لو بقي حكم الإخوان، على ما يفترض من أخطاء، هل كانت ستحدث مثل هذه المجازر؟ وهل لو استمّر محمد مرسي في الحكم، على ما قد يُعاب عليه من تصرفات، هل كان سيؤدي وجوده في الحكم إلى هذا الغضب الشعبي العارم الذي نشهده اليوم؟.
إنّنا بعيدًا عن كلّ تقديس للأشخاص والاتجاهات، لا ننحاز إلاّ لمصر، وهي الأمّ الحاضنة لكلّ التيارات؟ فلماذا لا يتم التصالح مع كلّ أبنائها، مؤمنهم وملحدهم، مسلمهم ومسيحيهم؟ إنّ لمصر في الجزائر لعبرة، وكنّا نأمل أن يعتبر إخواننا في مصر، بما حدث للجزائر من دماء ودموع، وثكالى وأيتام تعُجّ بهم الرّبوع. فلو أنّ المصريين من أوّل يوم أحجموا على الانقلاب على الإرادة الشرعية، واستسلموا للوطنية السليمة لتفادوا الفتنة الشعبية، ولعاشوا في الأمن والأمان واستمرارية الاستقرار، وأنّه ليحزّ في قلوبنا –والله- أن يتمادى الحاكمون في مصر في نشر الرّعب وروح الانتقام، وها هم يشوّهون وجه مصر الحضارية، ووجه العدالة الإنسانية بإصدار الإعدام الجماعي بالمئات، وفي الجلسة الواحدة ضدّ المخالفين.
لقد دنّس هؤلاء القضاة الجناة بإصدارهم لحكم الإعدام على المئات؛ دنسوا وجه السياسة التي تحكمها الأخلاق، وشوّهوا وجه العدالة التي أسّسها الإنصاف والارتفاق. فما لهؤلاء القضاة الجناة في مصر لا يكادون يفقهون عدلاً ولا سياسة؟ وما بالهم يعاملون الدعاة الأباة معاملة المجرمين الجناة؟.
إنّ في أدبياتنا الإسلامية “لا يقضي قاضٍ حين يقضي وهو غضبان” فكيف بقاضٍ فقد أباه في نار الفتنة أن يسند إليه بمهمة القضاء في قضية يزعم أن خمسمائة ويزيدون، هم من قتلوا أباه؟.
فيا حكام مصر! ويا قضاتها، لقد احرجتمونا أمام العالم بهذا السلوك اللاإنساني. وهذا الظلم الإجرامي، الذي يقدِّم صورة مخجلة عن الحكم في مصر، ولوحة قاتمة عن العدالة في مصر.
إنّنا نهيب بعلماء، وشرفاء مصر، وإلى المفتي والقسيس أن يتقوا الله في مصر، فإنّ الحكام يزولون وإنّ البقاء لمصر.