مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
غير مصنف

في ذكرى يوم الأرض… حب الوطن من الإيمـان / الشيخ الدكتور يوسف جمعة سلامة

SALAMAيقول الله تعالى في كتابه الكريم:  {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبينٍ} (1).

ذكر الإمام القرطبي في تفسير الآية السابقة: “{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}ختم السورة ببشارة نبيه محمد – صلى الله عليه وسلم- بردّه إلى مكة قاهراً لأعدائه، وهو قول جابر بن عبد الله وابن عباس ومجاهد وغيرهم. قال القتبي: معاد الرجل بلده؛ لأنه ينصرف ثم يعود. وقال مقاتل: خرج النبي – صلى الله عليه وسلم- من الغار ليلاً مهاجراً إلى المدينة في غير الطريق مخافة الطلب، فلما رجع إلى الطريق ونزل الجحفة عرف الطريق إلى مكة فاشتاق إليها، فقال له جبريل إن الله يقول:”{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}أي إلى مكة ظاهراً عليها. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بالجُحْفة”(2).

كما ذكر الإمام ابن كثير في تفسيره: “قال البخاري في التفسير من صحيحه: حدثنا محمد بن مقاتل، أنبأنا يعلى، حدثنا سفيان العصفري عن عكرمة عن ابن عباس {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قال: إلى مكة، وهكذا رواه النسائي في تفسير سننه، وابن جرير من حديث يعلى وهو ابن عبيد الطنافسي به، وهكذا رواه العوفي عن ابن عباس {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}  أي لرادك إلى مكة كما أخرجك منها، وقال

محمد بن إسحاق عن مجاهد في قوله: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} إلى مولدك بمكة، وقال ابن أبي حاتم: وقد روي عن ابن عباس ويحيى بن الجزاز وسعيد بن جبير وعطية والضحاك نحو ذلك” (3).

وافقت يوم أمس الأحد ذكرى يوم الأرض، والتي تأتي في الثلاثين من شهر مارس (آذار) من كل عام، هذه الذكرى التي تشكل معلماً بارزاً في التاريخ النضالي للشعب الفلسطيني باعتباره اليوم  الذي جدّد فيه الفلسطينيون تمسكهم بأرض آبائهم وأجدادهم، وتشبثهم بهويتهم الوطنية والقومية، وحقهم في الدفاع عن وجودهم رغم عمليات القتل والإرهاب والتنكيل التي كانت -وما زالت- تمارسها سلطات الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني، بهدف إبعاده عن أرضه ووطنه.

ومن المعلوم أن هذه الهبة كانت في الثلاثين من شهر مارس (آذار) سنة 1976نتيجة قيام سلطات الاحتلال الإسرائيلي بمصادرة نحو(21)ألف دونم من أراضي عرّابة وسخنين ودير حنّا وعرب السواعد وغيرها؛ لتخصيصها للمستوطنات في سياق مخطّط تهويد الجليل، واتخذت الهبَّة شكل إضراب شامل ومظاهرات شعبية عارمة، أعملت خلالها قوات الاحتلال قتلاً وإرهاباً بالفلسطينيين، مما أدى إلى استشهاد عدد منهم، بالإضافة لعشرات الجرحى والمصابين والمعتقلين.

إن فلسطين أرض مباركة مقدسة، مجبولة بدماء الآباء والأجداد، وهي أرض الإسراء والمعراج، وأرض المحشر والمنشر، وقد أخذت مكانتها من وجود المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين الشريفين بالنسبة للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فقد جعله الله توأماً لشقيقه المسجد الحرام بمكة المكرمة: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}(4)، ففلسطين أرض النبوات، وتاريخها مرتبط بسير الرسل الكرام -عليهم الصلاة والسلام-، وهي عزيزة علينا، ديناً ودنيا، قديماً وحديثاً، ولن نفرط فيها أبداً مهما كانت المغريات، ومهما عظمت التهديدات، فهي الأرض التي ولدنا على ثراها، ونأكل من خيرها، ونشرب من مائها، ونستظل بظلها.

وانطلاقاً من قول رسولنا – صلى الله عليه وسلم- وهو يخاطب وطنه مكة المكرمة: “وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ”(5)، فقد أحبَّ الفلسطينيون وطنهم، اقتداء بنبيهم محمد – صلى الله عليه وسلم– الذي عَلَّم الدنيا كلها حب الأوطان والأماكن المباركة والوفاء لمسقط الرأس، حيث يظهر حبه – صلى الله عليه وسلم – لمكة، وحرصه على البقاء فيها لا يبرحها، لولا أنه – صلى الله عليه وسلم – أُخرج منها مضطراً مرغماً.

أجل فما من الوطن بُدٌّ، وما للإنسان عنه من منصرف أو غنى، في ظلِّه يأتلف الناس، وعلى أرضه يعيش الفكر، وفي حماه تتجمع أسباب الحياة، وما من ريب أن ائتلاف الناس هو الأصل، وسيادة العقل فيهم هي الغاية، ووفرة أسباب العيش هو القصد مما يسعون له ويكدحون، ولكن الوطن هو المهد الذي يترعرع فيه ذلك كله، كالأرض هي المنبت الذي لا بُدَّ منه للقوت والزرع والثمار.

وهل ينسى الإنسان وطنه؟ وهل ينسى الأرض التي وُلد على ثراها، وأكل من خيرها، وشرب من مائها، واستظل بظلِّها؟، وما أحسن ما قال الشاعر:

بلادٌ أَلِفْنـاهَـا عَلى كُلِّ حَالــــــــــــــةٍ    وقَدْ يُؤلَفُ الشيءُ الذى ليسَ بالحَسَنْ

وَنَسْتَعذَبُ الأرضَ التِي لاَ هَواءَ بِها    ولا ماؤُهَـا عَـذْبٌ ولكِنَّهـــــــا وَطَــــــــــنْ

إن محبة الوطن دليل أصالة المرء وَنُبْله، كما حكى الأصمعي عن أعرابي يقول: “إذا أردتَ أن تعرف الرجل، فانظر كيف تحنُّنه إلى أوطانه، وتشوُّقه إلى إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه”؛ لأن ذلك دليل الوفاء، وأصالة الآباء، وقد كان العرب يتمدحون بالاعتزاز بالوطن ويرونه من مفاخرهم الكبيرة، كما قال ابن الرومي:

ولي وطنٌ آليتُ ألا أبيعَــــــــــهُ  وألاّ أرى غيري له الدهرَ مالكا

عهدْتُ به شرخَ الشبابِ ونعمةً  كنعمةِ قومٍ أصبحوا في ظِلالكـا

كما أن حب الوطن من الإيمان، والعيش فيه مع قسوة الحياة يُعَدُّ نعمة عظيمة لا يعرفها إلا من فقدها، ومن الأمور المبشرة بالخير، والدالة على تعلّق الفلسطينيين بوطنهم الغالي فلسطين، وقلبها النابض مدينة القدس، ولؤلؤتها المسجد الأقصى المبارك، ما نراه من تواجد يومي لحملات البيارق وطلاب مصاطب العلم والمعتكفين والمرابطين في المسجد الأقصى المبارك، وكذلك سدنة الأقصى وحراسه والمصلين من داخل المدينة المقدسة وأهلنا في الداخل الفلسطيني الذين يشكلون رأس الحربة وخط الدفاع الأول عن الأقصى والمقدسات والقدس، بالإضافة إلى حرص الكثير من شبابنا على عقد قرانهم في المسجد الأقصى المبارك.

إن الواجب على الأمتين العربية والإسلامية مساندة هذا الشعب، ودعم المرابطين في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، الذين أثنى عليهم رسولنا – صلى الله عليه وسلم –  خيراً، كما جاء في الحديث الشريف: ” لا تزال طائفةٌ من أمتي على الدينِ ظاهرين لعدوُّهم قاهرين لا يضرُّهم مَنْ خالفهم إِلاّ ما أصابَهُم من َلأْوَاء حتى يأتيهم أمرُ اللهِ وهم كذلك، قالوا: وأين هم؟ قال: ببيتِ المقدسِ وأكنافِ بيتِ المقدس”(6)، فعلى الأمتين العربية والإسلامية  واجب كبير تجاه أشقائهم في فلسطين عامة ومدينة القدس بصفة خاصة، وذلك بمساندتهم والوقوف معهم ودعمهم مادياً ومعنوياً؛ للحديث النبوي: عن ميمونة مولاة النبي-صلى الله عليه وسلم- قالت:(“يا رسول الله،أفتنا في بيت المقدس،قال:”أرض المحْشر والمنشر ، ائتوه فصَلّوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره” قلت: أرأيت إن لم أستطع أن أتحمل إليه؟  قال:” فتهدي له زيتا يُسرجُ فيه،فمن فعل ذلك فهوكمن أتاه”)(7).

وبهذه المناسبة فإننا نؤكد على تمسكنا بأرضنا المباركة فلسطين الحبيبة بصفة عامة، ومدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك بصفة خاصة، و كذلك بكل مقدساتنا في ربوع فلسطين الغالية، كما نشدّد على تمسكنا بحقنا في العودة إلى أرض الآباء والأجداد، هذا الحق المقدس لملايين الفلسطينيين في مختلف أرجاء المعمورة، كما نؤكد على حقنا في إقامة دولتنا الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وحقنا في تقرير المصير، وخروج جميع  الأسرى والمعتقلين من سجون الاحتلال؛  ليتنفسوا نسائم الحرية، وليسهموا في بناء هذا الوطن، كما أسهموا في الدفاع عنه .

أملنا في الله كبير، فقد لفظت بلادنا المباركة المحتلين عبر التاريخ، وستلفظ هذا المحتل

إن شاء الله.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين

الهوامش :

1- سورة القصص الآية (85)

2- تفسير الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي 13/321

3- تفسير القرآن العظيم لابن كثير3/534

4- سورة الإسراء الآية (1)

5- أخرجه الترمذي

6- أخرجه أحمد

7- أخرجه ابن ماجه

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى