الشيخ بلقاسم اللوجاني من رموز جمعية العلماء المسلمين بسوق أهراس/أ.عمار جوامع
ولد الشاب الشيخ بلقاسم بشيشي المعروف في الأوساط العلمية الثقافية ببلقاسم اللوجاني خلال سنة 1881 ببلدية سدراتة التابعة إقليميا لولاية سوق أهراس، ويكبر الشيخ باديس بـ 7 سنوات من أبوين بارين كريمين هما الشريف بن بلقاسم بشيشي والصغيرة جابري، ويعود نسب الشيخ إلى قبيلة لوجانة المعروفة بالعلم والجاه والثراء والكرم المتواجدة بواد لوعار في سفح جبل المائدة الذي كان أثناء الثورة المظفرة قاعدة للثورة والثوار ومأوى لأبطال المنطقة الخامسة التابعة للولاية الأولى أوراس النمامشة، وفي هذا الجو المفعم بالعطف والحنان والشهامة، رأى الطفل الشيخ النور وتربى وترعرع فيه وتشبع بمبادئ الأخلاق الكريمة والنبل والوفاء والشجاعة وحب الخير للجميع.
نشأة الشيخ:
نشأ الشيخ منذ نعومة أظافره في أسرة متواضعة محافظة متمسكة بالكتاب والسنة، كيف لا وأبوه من حفظة القرآن الكريم ،التحق الشيخ بالكتاب في سن متأخرة ،فحفظ جزءا من كتاب الله على يد معلم المشتى الشيخ أحمد بن عيسى الذي غادرها في وقت وجيز ليلتحق الشيخ بعدها بزاوية البناقرية بالناحية التي تعد منارة علم وإشعاع فكري يقصدها سكان الناحية وبعض النواحي الأخرى. وبهذه الزاوية المباركة تمكن الشيخ من ختم القرآن الكريم وحفظ بعض المتون كمتن ابن عاشر والأجرومية على يد شيخ الزاوية الشيخ الطيب لبناقرية وابنه فرحات وعمره لم يتجاوز 17 سنة ويبدو أن طموح الشيخ دفع به إلى طلب المزيد من التحصيل العلمي والمعرفي بعد أن تفتقت مواهبه وتعززت قدراته واشتدت رغبته في العلم بعد أن ذاق حلاوته واكتشف شيخ الزاوية هذا الإقبال الشديد والرغبة الملحة في التعلم نصح والده بأن يلحقه بجامع الزيتونة ارضاءا لرغبته لكن والده ولأسباب لا نعرفها وجهه إلى زاوية نفطة بتونس.
دراسة الشيخ بزاوية نفطة:
وفي سنة 1896 شد الشيخ الرحال لينزل بزاوية نفطة المضيافة بالجريد التونسي والتي أسسها العالم الصوفي أبو العباس أحمد التليلي وأرادها أن تكون مدرسة ومنارة للعلم ومأوى للزائرين من القبائل القريبة والبعيدة و لتكون بمثابة إحدى فروع جامع الزيتونة يقصدها طالبي العلم من جميع النواحي وجعلها تتمتع بنظام داخلي يشبه نظام الداخليات الحالية بتوفرها على مطبخ ومرقد جماعي ومرحاض ومطهرة وقاعة لإقامة الصلاة الجماعية ومن مميزاتها أنها تحظى بعدد هائل من العلماء والفقهاء والقراء من القطرين وقد اشتهرت الزاوية بنشاطها العلمي والتربوي على يد علماء من الجزائريين المهاجرين الفارين من الاستعمار الفرنسي وأشقائهم التونسيين وبهذه المنارة العلمية الشامخة شموخ علمائها وقرائها أتقن الشيخ كتاب الله الكريم تلاوة وترتيلا ووسع ثقافته العلمية والأدبية والدينية ونمّا ثروته اللغوية واجتهد في تلقي شروح بعض المتون التي أتقن حفظها في زاوية البناقرية على الطريقة التقليدية على عادة أهل الزاوية كشرح متن ابن عاشر ودراسة الميارة ورسالة أبي زيد القيرواني خلال مدة أربع سنوات ينهل من علمها وخيرها ليتوجه بعدها إلى جامع الزيتونة المعمور مزودا بزاد وفير من العلم والمعرفة حافظا لكتاب الله تحيطه التربية الصالحة والعناية الفائقة.
دراسة الشيخ بجامع الزيتونة:
في عام 1900 شد الشاب الشيخ الرحال إلى تونس الشقيقة لكن هذه المرة ليست كغيرها، وبجامع الزيتونة المعمور حط الرحال وراح يبحث عن مأوى يأوي إليه واهتدى إلى تأجير حجرة بإحدى الوكالات القريبة من ذاك الصرح الديني الشامخ ليتصل بعدها بإدارة مشيخة جامع الزيتونة وسجل بالقسم الذي يناسب مستواه العلمي الطريقة سابقا كما كانت تسمى وقتها، لأن الشيخ كان يتوفر على معلومات قيمة اكتسبها من الزاوية خلال تواجده بها وبعد التحاقه بالقسم استبشر الشيخ خيرا عندما وجد نفسه يدرس على يد ثلة من المشايخ الذين كان يعرف ويسمع عنهم الكثير عندما كان بنفطة ورغم تقارب السن بين الشيخ وطالبه ولعل البعض منهم يكبرهم سنا ويكبرونه علما أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الشيخ الأديب الفقيه محمد النخلي القيرواني والشيخ الأديب الفقيه سالم بوحاجب والشيخ الأديب عمر بن عاشور والشيخ المفسر الأديب محمد الطاهر بن عاشور والشيخ محمد العزيز جعيط صاحب المكانة المرموقة والسمعة الطيبة لدى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والقائمة طويلة لا يسع المجال لذكر تلك الثلة الكريمة من المشايخ الذين بقي الشيخ يذكرهم بخير ويثني عليهم،مشيدا بدورهم الإيجابي في خدمة العلم في شتى المجالات الدينية والأدبية إلى أن التحق بالرفيق الأعلى.
دراسة الشيخ بجامع الأزهر الشريف:
وفي عام 1905 كان الطالب الشيخ بلقاسم اللوجاني على موعد مع رحلته إلى الجامع الأزهر الشريف بعد أن أعد العدة ورتب الأمور وكله عزم وتصميم بعد أن تزود بزاد وفير من العلم والمعرفة من جامع الزيتونة المعمور على يد مشايخ أفاضل كما ذكرت آنفا ،وكانت وسائل النقل تكاد تكون منعدمة لمثل هذه الرحلات وقطع هذه المسافات الطويلة عدا الباخرة وشاحنات نقل البضائع فكان للشيخ الحظ الأوفر بالسفر عن طريق الباخرة كأحسن وسيلة وكان ثمن التذكرة وقتها بـثلاثين فرنكا ،ستة دورو وهي التسمية السائدة عند عامة الناس في ذلك الوقت وجاء موعد الرحلة والتحق الشيخ بالميناء حاملا معه متاعه وزاده ولم يكن معه وقتها من الوثائق سوى بطاقة الطالب وبطاقة الانخراط في الخلدونية وشهادة إثبات المستوى (شهادة مدرسية) وصعد الشيخ الباخرة وما هي إلا سويعات وتحركت الباخرة في اتجاه أرض الكنانة مصر العربية تشق عباب مياه البحر الأبيض المتوسط لتتوقف سويعات أخرى بميناء تونس ثم تتحرك ثانية لترسو بميناء الإسكندرية مصر وينزل الشيخ ورفقاؤه الأربعة حاملين معهم متاعهم وزادهم باتجاه محطة القطار متجهين إلى القاهرة المعزية ونزل الرفقاء بآخر محطة للقطار واتخذوا وسيلة نقل نحو الأزهر الشريف، وأمام إحدى بواباته حط الشيخ ورفقاؤه الرحال، وكان الشيخ في شوق كبير لرؤية الأزهر فترك ما معه حذو أحد الرفاق ودخل الأزهر وبه انتحى ناحية من باحته ووقف منهك القوى و آثار السفر بادية على محياه وراح يفكر ويتأمل فإذا بطالب أزهري يتوجه إليه بالسؤال عن حاله فأجابه الشيخ وعلى الفور عن هويته ومبتغاه فوجد فيه المساعد الأمين الوفي لتذليل الصعاب في الحصول على الإقامة والتسجيل وتوطدت العلاقة بينهما حتى صارا كالأخوين الشقيقين وصدق من قال: (رب أخ لم تلده أمك) وبقيا صديقين يتبادلان الرسائل في شتى المجالات الفكرية والأدبية والدينية وبعد ترتيب الأمور من إيواء وتسجيل دخل الشيخ قاعة المحاضرات فوجد نفسه يدرس على يد ثلة من الأساتذة المشايخ الأفاضل يذكر منهم : الشيخ الأديب إبراهيم حسن المرصافي والشيخ الأديب الفقيه حسونة النواوي والشيخ الأديب: عبد القادرالرافعي والشيخ الأديب الفقيه: عبد الرحمان قراعة والشيخ الأديب الفقيه أبو الفضل الجيزاوي والقائمة طويلة لا يسمح المجال لذكر كل المشايخ الذين تتلمذ على أيديهم الشيخ أو حضر محاضراتهم لأنه قد استغل وقته في طلب العلم والمعرفة أما عن زملائه في الدراسة مرافقوه في الأزهر من الجزائر فلم أتمكن من معرفتهم باستثناء ما روى لي أحد أحفاد شيخ من الشيوخ الذين عرفهم الشيخ عن قرب لأنه زامل زميلا يقال له نجار من مدينة القرارم، ولقد بحثت عن عائلته علني أجد عندهم معلومات أو وثائق تساعدني في بحثي هذا المتواضع ولكن دون جدوى فلم أتحصل على معلومة تؤكد أو تنفي الرواية ولقد جمعت البعض من كل وأنا أعد هذا الإنجاز المتواضع عن حياة أحد رموز جمعية العلماء العديد من الوثائق والمستندات القيمة زودني بها أحد أسباط الشيخ الابن البار عبد العزيز زايدي الذي ساعدني كثيرا ولم يبخل علي بما ملكت يداه أشكره جزيل الشكر والعرفان .
عودته إلى أرض الوطن ونشاطه التربوي والتعليمي والتوعوي:
قفل الشيخ راجعا بعد غياب دام 19 سنة قضاها في الجد والكد والمثابرة طلبا للعلم ليعود سنة 1911 فائزا مكرما موسما بوسامات العلم والشرف حاملا معه شهادات تبرز قيمته العلمية أذكرها مفصلة شهادة حفظ القرآن تلاوة وترتيلا والشهادة الأهلية وشهادة التطويع من جامع الزيتونة المعمور التي امتحن فيها بعد عودته من الأزهر الشريف وشهادة العالمية من الأزهر فاستبشرت العائلة خيرا بعودة ابنها وعمت الفرحة كل الأقارب والجيران وسارعت بتزويجه لتضمن بقاءه بمدينته التي وهب نفسه طوال حياته في خدمتها مدرسا ومديرا وإماما وواعظا ومرشدا ومفتيا ومصلحا ،وفور عودته من رحلته العلمية شرع في تقسيم سكنه الكائن بحي أول نوفمبر حاليا إلى قسمين جعل منه قاعة للصلاة والتدريس والجزء الباقي سكن لعياله ليخوض بعد نهاية الأشغال معركته التي آل على نفسه دخولها على إثر رجوعه ففتح فوجا من التلاميذ وخصص له فترتين فترة صباحية وفترة مسائية وشرع في تقديم دروس الوعظ والإرشاد والتوعية للكبار بمعدل ثلاثة دروس في اليوم درس مع صلاة الصبح خصصه للتفسير ودرس مع صلاة العصر للفقه والتوحيد وبعد صلاة العشاء درس لشرح الأحاديث النبوية إلى جانب سعيه في تكوين الجمعية الدينية للشروع في بناء المسجد العتيق بالمدينة مرفوقا بحجرات المدرسة الجديدة التي اختير لها اسم مدرسة الحياة وما يحمله هذا الاسم من دلالة وفي ذلك تنافس المتنافسون المزكون منهم والمتبرعون وأصحاب الهبات، وشيد المسجد والمدرسة في ظرف قياسي، و قد تزامن مع الشروع في هذا الإنجاز العظيم الضخم مع تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الموافق للخامس من ماي 1931 .
إسهاماته في جمعية العلماء ونشاطه التربوي والتعليمي والتوعوي:
كان للشيخ لقاءات ومشاورات بينه وبين ثلة من زملائه من رموز الجمعية متواصلة باعتبار أن الشيخ من الداعين والمتحمسين بل والمؤسسين الرئيسيين من بين الحاضرين الــ149 مشاركا على مستوى القطر الجزائري في الجمعية التأسيسية العامة المنعقدة كما هو معلوم في الخامس ماي 1931، والتي كان من بين المترشحين فيها بالمكتب الوطني بالجمعية المكون من 16 عضوا الشيخ موضوع البحث وبعد عملية الفرز فاز الشيخ بــ147 صوتا من بين 149 مصوتا شانه شأن المشايخ الأفاضل الذين تساوى و إياهم في المرتبة الأولى مثل الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ محمد البشير الإبراهيمي والشيخ العربي التبسي والشيخ محمد خير الدين، ولقد كان للشيخ صوته المسموع في الجمعية وعاد الشيخ من هذه الجمعية مستبشرا خيرا لهذه الجمعية وخصص خطبة الجمعة للحديث عن هذا المولود الجديد الذي كان حلمه الوحيد بعد عودته والشروع في العمل التربوي والتعليمي وواصل الشيخ نشاطه التربوي مدير ومدرس و ارتئ مكتب الجمعية الوطنية ضرورة زيادة عدد المعلمين تماشيا مع زيادة عدد التلاميذ فعينت الشيخ الأديب بلقاسم حوماني الذي سأفرده ببحث إن تيسر ذلك عن مساهمته في تكوين المعلمين غداة الاستقلال سنه 1962، وبعد عودة ابن المدرسة ابن شيخها الشيخ لمين بشيشي الذي خرج من المدرسة طالب سنة 1941 ليعود إليها حاملا معه شهادة التحصيل ،مدرس ورمز من رموز الجمعية إلى أن التحق بالثورة سنة 1956 .
الوثائق المعتمدة في هذا البحث المتواضع:
من بين هذه الوثائق التي اعتمدتها في هذا الانجاز:- شهادة حفظ القرآن الكريم تلاوة وترتيلاً من مشيخة زاوية نفطة.
-الشهادة الأهلية وشهادة التطويع من جامع الزيتونة المعمور – شهادة العالمية من الأزهر الشريف- مجموعة من بعض الرسائل التي كان الشيخ يبعث بها لعائلته سواء من نفطة (تونس) أو من تونس أثناء تواجده بجامع الزيتونة أو من مصر خلال تواجده بالأزهر حيث طلب في إحدى الرسائل من عائلته تزويده بأربعة فرنك ثمن إيجار الإقامة والباقي لتكاليفه اليومية.- نسخة من بطاقة الطالب – محضر الجمعية التأسيسية العامة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي فاز فيها الشيخ بـ147 صوت من بين الـ149 مشاركا في هذه الجمعية بالتساوي مع ثلة من الرموز مثل الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ محمد البشير الابراهيمي والشيخ العربي التبسي والشيخ محمد خير الدين مع الخمسة الأوائل بالرتبة الأولى حسب ما أورده الدكتور شرفي أحمد الرفاعي بعنوان (جمع وتعليق وتوثيق). – نسخة من البرامج التعليمية بالجمعية على مستوى القطر الجزائري التي كانت للشيخ فيها بصماته – محضر تأسيس الجمعية الدينية لبناء المسجد العتيق وحجرات مدرسة الحياة لسنة 1931 التي اختير فيها الشيخ بالإجماع لرئاستها. – رد الإدارة الاستعمارية preficteur قسنطينة الرافض لطلب إنشاء الجمعية الثقافية التربوية إلا بترخيص من الإدارة الفرنسية المذكورة.
أخلاق الشيخ وثقافته:
عاش الشيخ للعلم و التعليم والإفتاء والنصح و الوعظ و الإرشاد و التوجيه الديني و إصلاح ذات البين و الذود عن كرامة الوطن و الاعتزاز بانتمائه للجزائر و العروبة و الإسلام. عاش عيشة الزهاد و مات موتة العباد، زهد في الدنيا و ملذاتها و مغرياتها ، فلا المال أغراه و لا الجاه استهواه. عرض عليه منصب الإمام المأجور فرغب عنه و مهمة القضاء فرفضها. كان الشيح لينا لطيفا حليما متسامحا كريما، إلا إذا انتهكت حدود الله يكون شديدا غضوبا فهو يمتاز بالنباهة و الذكاء و الفصاحة. فكان حاضر البديهة و لكنه لا يتسرع في الإجابة رغم قوة ذاكرته التي عاش بها حتى آخر أيام حياته، حافظا للمسائل و الشواهد و المتون، ضليعا في شتى أطراف العلوم بمعناها الواسع. كيف لا و قد عايش مرحلة الموسوعات و المعارف العامة، فكان بحق عميق المعرفة بالقرآن و علومه و الحديث و فروعه و الفقه و أصوله و الأدب و فنونه و الفرائض و علم التاريخ قديمه و حديثه.
وفاة الشيخ ووقعها في النفوس.
وفاة الشيخ ووقعها على نفوس أهل المدينة:
كان لوفاة الشيخ خطب عظيم ومصاب جلل وفاجعة أليمة لسكان المدينة وما جاورها خاصة وللأمة الجزائرية عامة لفقدان أحد رموزها العظام، تجلى ذلك في خروج سكان المدينة و ما جاورها عن بكرة أبيها باكية حزينة تودع وتشيع عالمها الفذ وابنها البار مدرس أبنائها ومصلح ومرشد وواعظ ومفتي كبارها. التحق الشيخ بالرفيق الأعلى في 7سبتمبر 1954 تاركا وراءه أسرتيه الصغيرة والكبيرة وجمعا غفيرا من طلابه ومحبيه فرحم شيخنا وأسكنه فسيح جناته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .