لا يسوغ لأحد أن يستغني عن المشاورة إلا أن يكون مستبدا برأيه، أو مغترا بموقفه، ومهما يكن عند امرئ من سداد في القول أو رشد في الفكر فسيبقى محتاجا لإسناد من هنا أو هناك، وبخاصة فيما يشكل من أمر له فيها شراكة مع الأغيار، أو فيما يختاره لنفسه من أمور تًستقبل، و يتوقف الأمر فيه على استنصاح و استشارة، من مثل زواج أو تجارة، يكون للآخرين فيها دور في سعادة أو شقاء.
أخرج الإمام أحمد(31/244) ابن حبان(11/217) والشافعي في مسنده (2/177) عن الزهري عن أبي هريرة أنه كان يقول: “ما رأيت أحدا قط أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم“. وهو خبر منقطع، قال ابن حجر في الفتح(5/334): “وهذا القدر حذفه البخاري لإرساله، لأن الزهري لم يسمع من أبي هريرة..”
ونقل الشافعي رضي الله عن الحسن البصري قال: “إن كان النبي صلى الله عليه وسلم لغنيا عن المشاورة، ولكنه أراد أن يستنّ بذلك الحكام بعده” (السنن الكبرى للبيهقي:7/46) ولعل الحسن أراد أن يقول بأن النبوة وما فيها من وحي يكفيانه، ويستغني بهما عن كل استشارة.
لو كان لأحد أن يستغني عن مشاورة لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجدر وأولى بذلك، ولو لم يفعل لتفهّم الأصحاب صنيعه، ولمنعهم جلال الموقع عن مجرد السؤال أو الاستفهام، غير أن النبوة لم تلغ حقيقة أن يكون الرسول بشرا، بل إن من أهم أركان النبوة القدوة، وحيثما كانت ريادة أو زعامة تبعتها القدوة، ذلك أن من طبائع النفوس أن تتطلع إلى صنيع مَن يلي أمرها في الإصلاح والتوجيه، وأدنى إخلال يسهِّل التفلّت والتحلل، بادعاء أن الأمر لو كان مأمورا به، أو لو لم يكن فيه شيء لما تركه الرائد والمتبوع، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يبادر إلى الالتزام بما يُقتدي به فيه، لعلمه بطبائع النفوس المشار إليها.
لا تزال مسائل في هذا العالم -إلى اليوم- ينفرد باتخاذ القرار فيها زعماء منتخبون-أو أجهزة تنفيذية تحت إمرتهم- بالرغم من إيمانهم وعملهم بالديمقراطية، التي من أهم أركانها النظام البرلماني، الذي يمرِّر مشاريع القرارات أو يعطلها، عن طريق الحسم فيها بأغلبية الآراء بعد دراستها ومناقشتها، فأمور الحرب -وما يسبقها أو يتخللها من أعمال استخبارية- يُقضى الكثير منها دون عرض على البرلمان، وتفصل فيها دوائر ضيقة، وغالبا ما تُدرج ضمن مسائل الأمن القومي، لكن الغريب في خبر أبي هريرة الذي معنا أنه جاء في سياق مواجهة محتملة مع كفار قريش زمن الحديبية، وقد استشار النبي أصحابه في أسلوب التعامل إذا حصل نزال ما، مما يكون له أثر، وكان رأي أبي بكر مختلفا تماما، حين أرجع الأمر إلى الغرض من الخروج أصلا، حيث قال: “… الله ورسوله أعلم يا نبي الله، إنما جئنا معتمرين ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فروحوا إذا..” فعمل برأي أبي بكر، وبعد ذلك استشار في أثناء الإعداد لغزوة بدر، وعمله برأي الحباب بن المنذر في المنزل الذي يُتخذ، كما روت مصادر السيرة، بل إنه صلى الله عليه وسلم عمل برأي الصحابة في الخروج إلى أحد، بالرغم من أنه لم يكن يرى ذلك، قال البخاري في صحيحه (9/112): “وشاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أحد في المُقام والخروج، فرأوا له الخروج، فلما لبس لامته وعزم قالوا: أقم، فلم يمل إليهم بعدالعزم، وقال: لا ينبغي لنبي يلبس لامته فيضعها حتى يحكم الله“. فعمل برأيهم، فلما ترددوا أو غيروا رأيهم حسم أمره صلى الله عليه وسلم، وتلك الخصلة من أمارات القيادة، ولا علاقة لها بالاستبداد بالرأي.
ولعل أبين أمر يصدِّق ما قاله أبو هريرة في كثرة مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ما حدث في فتنة الإفك، حين “شاور عليا، وأسامة فيما رمى به أهل الإفك عائشة، فسمع منهما حتى نزل القرآن..” (المصدر السابق).
وهو أمر يتعلق بخاصة نفسه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يُقحم فيه الاستشارة، فما أعظم هذا النبي، وما أعظم هذا المبدأ الذي شرّعه، بأقوى مسلك يدفع إلى الاقتداء به فيه.
والغريب أن بعض المحبين لا يزال يكتفي في مسألة الشورى بإعلاميتها فقط، وأنها غير ملزمة للحاكم، فيشرِّعون للاستبداد، أو يمدون المستبد بمزيد من الحجج للاستمرار في استبداده، في اتجاه معاكس تماما لاتجاه النبوة، ويحسبون أنهم يخدمون النبوة والإسلام بالرأي الذي يرجّحونه !