وضع المثقف الجزائري استثناء في قاعدة تحكم وضع المثقف في العالم، فالمثقف الجزائريُّ يشكّل حالة تكاد تكون متفردة في عالم المثقفين والمفكرين، فجدليّة العلاقة بين المثقف والسلطة التي تطبع الواقع الثقافي والسياسي الجزائري، تجعل المثقف الجزائري خارج كلّ الحسابات التي عادة ما تكون هي الفيصل في هذه العلاقة التقليدية، والتفسير القريب من هذه الحقيقة، هو أنّ مثقف دولة ما بعد الاستقلال الوطني هو امتداد لمثقف دولة الاستعمار، لذا ورث المثقف وضعاً قائماً تشكّل خلال مرحلة تاريخية طويلة من الاستعمار الغربي لهذه البلاد، وامتد إلى مرحلة نشوء الدولة الوطنية، وما يلفت انتباهنا اليوم لهذه العلاقة، هو ما نشهده من تطورات في الميدان السياسي على الساحة الوطنية والدولية، ومجمل التحولات السياسية على صعيد علاقة السلطة بالمجتمع عموماً، والمثقف على وجه الخصوص.
وإذا كان هذا التأويل سبباً رئيساً في هذه العلاقة، فإنّ هناك أسباباً أخرى، جعلت وضع المثقف في الجزائر حالة استثنائية، بالنّظر إلى وضع المثقف في العالم، فالسلطة التي كان لها المسؤولية الكاملة عن حالة الانسداد، ألغت أي دور لهذا المثقف، فالمثقف الجزائري، لا دور له في الحياة الثقافية، ولا حركة له في الفعل السياسي، ويكاد ينعدم له أي دور في القضايا الاجتماعية، والأدهى والأمر، دوره البسيط في الميادين العلمية والأكاديمية، فقد يعمل المثقف الجزائري -مثلاً- أستاذاً جامعياً لمدة طويلة، وربما يتقاعد من وظيفة التدريس، ولا يؤلف كتاباً في تخصصه، وربما لا نقرأ له حتىّ مقالاً في مجلّة محكّمة، وهذه حالة نادرة في العالم، فالمثقف في المجتمعات المتقدمة، هو المحرّك لكلّ المجالات التي تعرفها هذه المجتمعات، فالاقتصاد والتكنولوجيا، والثقافة وقضايا المجتمع كلّها مجالات، تتحرك انطلاقاً من حركة المثقف، والعملية السياسية في هذه المجتمعات، ليست سوى استجابة لحركة المثقف، كما أنّ المثقف يعرف غالباً بمنتوجه الفكري والثقافي، وتأثيره في حركة المجتمع لا تكون إلا خلال جهوده الفكرية والعلمية، إلى جانب اهتمامه بقضايا المجتمع والسياسة، ومن هنا يحظى المثقف في المجتمعات الغربية بمكانة خاصة وعلاقة سليمة بالمجتمع والسلطة، بينما المثقف عندنا لا يحظى بأيّ وضع يميّزه عن سائر أفراد المجتمع، فهو في سائر حركته الاجتماعية، أقرب إلى العوام منه إلى المثقفين –طبعاً نقصد حالة المثقف في الغرب- فسلوكه اليومي لا يظهر أي تميّز عن سلوك الفرد البسيط، فما يصيب المجتمع من أنانية فردية تلحق غالباً المواطن البسيط الذي يختار دائماً المواقف السلبية من كلّ التحولات الاجتماعية والسياسية، فالمثقف الجزائري له النصيب الأوفر من هذه الحالة، فكيف نقبل من المثقف أن لا يكون له أي موقف من الانتخابات –مثلاً- أو خيارات سياسية تضرّ بالمصلحة الوطنية تسلكها السلطة، أو قرارات تتخذها تكون وبالاً على البلاد والعباد؟، والمثقف في كلّ هذا يلتزم الصمت، ويتخذ الموقف السلبيّ، الذي يشترك فيه مع أبسط فرد من أفراد المجتمع، ثمّ يرنو بعد ذلك إلى مكانة تميّزه عن بقية أفراد المجتمع، لا، لن تكون له هذه المكانة، ولن يكون المثقف بهذه المواقف السلبية نصيراً للمجتمع، لأنّه اختار الركون إلى الاستكانة والدَّعة، ورفض أن يدفع فاتورة المثقف العضويّعلـى حـد تعبير كرامشي.
قلنا إنّ المثقف الجزائريَّ استثناء من قاعدة تحكم وضع المثقف في العالم، لأنّنا نتابع وضع المثقف والثقافة عموماً في عالمنا العربي والإسلامي، ورغم أنَّ المثقف في هذه الجغرافيا وضعه لا يختلف كثيراً عن وضع المثقف عندنا، إلاّ أنـــّه أحسن حالاً من المثقف في بلادنا، خذ مثلاً مصر، كنموذج لعلاقة المثقف بالسلطة في العالم الثالث، فقد كان للمثقف قبل الانقلاب العسكري، وحتى قبل ثورة 25 يناير في عهد حسني مبارك، دوراً هاماً في الحياة السياسية والاجتماعية، رغم التباين الواضح بين السلطة القائمة وهذا المثقف، فقد كان عبد الوهاب المسيري وهو مفكر إسلامي بارز، أحد نشطاء حركة كفاية، التي كان لها دوراً فاعلاً في التحولات السياسية التي زحزحت بنيان الدولة العميقة، وغيره من المفكرين المصريين الذين يتسنمون زمام القيادة الثقافية اليوم في مصر.
والجزائر اليوم، تفتقر إلى هذه النماذج الثقافية الفاعلية، في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، فالمثقف الجزائري – بالإضافة إلى ما ذكرناه من توتر علاقته بالسلطة منذ فترة الاستعمار، واستمرار هذه الحالة تاريخياً إلى يوم النّاس هذا- تحوّل إلى آلة إدارية، لا تشغله هموم البلاد والعباد، و لا تتحرك فيه شهوة البحث والقراءة التي عادة ما ترتبط بالمثقف، وإنما يهمه من دنياه المنصب والجاه، ولو على حساب القيم والمبادئ، فعلاقة المثقف بالسلطة تبدأ وتنتهي عند الحصول على وظيفة أو منصب إداري رفيع، وهذا ما أفقده حبَّ وتعاطف المجتمع، والمستفيد في ذلك –طبعاً- السلطة، والخاسر دائماً المثقف والمجتمع. والله المستعان.