التعامل مع النبوة التزام و ذوق، و لو بعد مئات السنين، و احترام المقامات له في النفس مكانة و هيبة، و لا يذهل عن هذه الحقيقة إلا غافل يُنبّه، أو محروم قد حُجب عن الخير و الأخيار، و حين نطالع سير الأصحاب ندرك مدى الحب الذي يكنّونه للحبيب، و حجم الإجلال الذي يقابلونه به، و مع ذلك نجد منهم من أساء إلى المقام عن جهل، و لم يدرك مقدار الجناية التي اقترف، و رفع الصوت بالنداء عليه صلى الله عليه و سلم مسلك سجله القرآن، و اقتحام خصوصياته بالوقوف من وراء الحجرات ليس مذموما من حيث الشرع فحسب، بل هو مناف للعقل، و مجاف لأذواق الأسوياء، و لا يزال يصرّ المرء على إغاظة الأخيار و الفضلاء حتى يستحق وصفا قد يُلزق به، و يستجلب مقتا لا يقوى على حمله، أو يعجز عن تحمل تبعاته.
أخرج الحاكم في المستدرك(2/71) و صححه عن أبي هريرة رضي الله عنه “أن رجلا أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم لِقحة، فأثابه منها بست بكرات، فتسخّطها الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يعذرني من فلان، أهدى إليّ لِقحة، فكأني أنظر إليها في وجه بعض أهله، فأثبته منه بست بكرات فتسخّطها، لقد هممت أن لا أقبل هدية إلا أن تكون من قرشي، أو أنصاري، أو ثقفي، أو دوسي.”
و أخرجه الإمام أحمد(13/296) فقال فيه:”أن أعرابيا أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرة، فعوضه منها ست بكرات، فتسخطه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ” إن فلانا أهدى إلي ناقة، وهي ناقتي، أعرفها كما أعرف بعض أهلي، ذهبت مني يوم زغابات(أو زغابة: موضع قرب المدينة)فعوضته ست بكرات، فظل ساخطا، لقد هممت أن لا أقبل هدية إلا من قرشي، أو أنصاري، أو ثقفي، أو دوسي ” و أخرج الحديث أيضا الترمذي في جامعه(5/730)، و صححه الشيخ الألباني من طريقه(صحيح و ضعيف الترمذي:8/445شاملة)قال السندي: البَكر-بالفتح فالسكون-: الفتي من الإبل، بمنزلة الغلام من الناس، والأنثى بكرة.”
التسخّط خلاف الرضا، أبداه شخص على عطاء من الرسول استقلّه، و قد لا يتصور أحدنا أن يصدر من صحابي هذا التسخط بإزاء الرسول صلى الله عليه و سلم، لما نعرفه عنهم من حب يعزّ له نظير في الأمم الأخرى، أن يُقابَل نبي بمثل ذاك التعلق، من دون أن تُمسّ عقيدتهم في المعبود، و لمّا كان البشر بشرا حتى و لو كانوا صحابة-و الصحية درجات-فقد كان للملازمة دورها في ترسيخ القيم و الأحكام، و كان مَن لم يحظ بطول الصحبة-لبعد موطن و نحوه-دوره في الجفاء و عدم التحقق بآداب التعامل و الخطاب، و قد بيّنت رواية الإمام أحمد و الترمذي أن الرجل الذي جاء مبهما في رواية ابن حبان كان أعرابيا، و مثل هذا التنصيص يوقفنا على سبب الغلظة في التعامل مع النبي صلى الله عليه و سلم، يستصحبون عاداتهم و أعرافهم-و ربما اعتقاداتهم أحيانا-في مجالس الرسول صلى الله عليه و سلم، يواجهونه بها، و يلحقون به الأذى، و لا تزال الهدية إلى الآن في بعض الأماكن النائية عن الحواضر تستوجب مقابلا لا يقل عن قيمة الأولى، و ربما توثّق بالكتابة، حتى إذا أُعطي أحدهم عطاء يستقله، أو لا يرقى إلى عطائه أشاعه في الناس، دليلا على خسة، أو تمهيدا لإعلان القطيعة !
و ما كان للنبي أن يَعلق بذمّته دين معنوي أو مادي لأحد، و التعامل مع من يترقبون العِوض لهدايا-لا يحتاج إليها النبي حتما، إلا أن يُرطِّب بقبولها قلوب من يُهديها-فيه من الصعوبة و الحرج الشيء الكثير، و لذلك همّ النبي صلى الله عليه و سلم أن لا يقبل هدية من أمثال هؤلاء، و تصريحه بمن يقبلها منهم فيه مزية لهم، و ثناء عليهم، بما هم أهله من ذوق في السلوك و كرم في العطاء، قال التوربشتي رحمه الله في عون المعبود (8/ 35):”كَره قبول الهدية ممن كان الباعث له عليها طلب الاستكثار، وإنما خص المذكورين فيه بهذه الفضيلة لما عرف فيهم من سخاوة النفس وعلو الهمة وقطع النظر عن الأعواض..”
وقال البغوي في شرح السنة(8/301): “ومنهم من جعل الناس في الهبات على ثلاث طبقات: هبة الرجل ممن هو دونه، فهو إكرام إلطاف لا يقتضي الثواب، وكذلك هبة النظير من النظير، وأما هبة الأدنى من الأعلى فتقتضي الثواب، لأن المعطي يقصد به الرفد والثواب، ثم قُدِّر الثواب على العرف والعادة، وقيل قَدر قيمة الموهوب، وقيل حتى يرضى الواهب.”
و استأنس البغوي بما ورد في مصنف عبد الرزاق(10/449-450) عن معمر بن راشد عن زيد بن أسلم “أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي امرأة تخرج من عند عائشة ومعها شيء تحمله، فقال لها: ما هذا؟ قالت: أهديته لعائشة فأبت أن تقبله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة حين دخل عليها: هلا قبلتيه منها، قالت: يا رسول الله إنها محتاجة، وهي كانت أحوج إليه مني، قال: فهلا قبلتيه منها، وأعطيتها خيرا منه.”