تحدث الفقهاء عن البيعة بمعنى اختيار الأمة لمن يحكمها، وفصلوا ماذا ينبغي أن يكون عليه الذي يختارون بإراداتهم ورضاهم، على أنه وكيل عن الأمة في تسيير شؤونها، وتدبير حياتهم السياسية والاقتصادية والثقافية بما ينفعهم من تنمية وحفظ للأمن الداخلي، ودفع للعدوان الخارجي.
ولكن الديمقراطية الحديثة تقوم أيضا على اختيار من يسوس الشعوب بإرادتهم، وجعلوا لذلك دستورا يحدد بوضوح الميادين العامة التي تحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتستند إليه القوانين الأخرى التي لا يجوز مخالفتها للدستور، كما جعلوا للانتخاب قانونا واضحا يحكم هذه العملية الاختيارية بحرية.
والآن يجب على فقهاء القانون وفقهاء الشريعة التعاون لتأصيل ذلك كله دستورا وقانونا وانتخابا، وسبيل إيجاد الثقة بين الحاكم والمحكوم، لأنها أساس عظيم لهذه العلاقة، فإذا فقدت فذلك يؤدي إلى الانفلات، وانفصال بين الأمة وحكامها، ويفقد القانون قيمته، وتعم الفوضى.
كما أن التعددية مشروعة في الفقه الإسلامي كما هو الأمر في المذاهب الفقهية الاجتهادية المتعددة، وذلك كله دال على حرية التفكير، والاجتهاد، وسعة أفق أصحاب هذه المذاهب في احترام بعضهم للبعض الآخر.
ومشكلة الشورى، والنيابة عن الأمة التي لا ينبغي أن يشارك فيها أهل الحل والعقد فقط وإنما يشارك فيها عامة الناس، لأن الشعوب اليوم أصبحت على وعي لما يجري في بلدانها وفي العالم، وأصبحت المرأة أيضا لها مشاركة واضحة في الشأن العام.
وقد تحدث إليّ أستاذنا الكبير سعيد شيبان في هذا الموضوع داعيا إلى الاجتهاد وفي تدوين فقه الانتخاب، وتأصيله على أساس النصوص الكلية، وعلى أساس الحقائق التي تغيرت اليوم في المجتمعات الإنسانية وتجاربها في هذا المجال.
فالشرعية لا تكتسب إلا من الأمة بإرادتها في اختيار حكامها اختيارا، لا إكراه فيه، ولا تغلب، ولا يجوز فيها استعمال الأموال لإلزام الناس باختيار معين.
ومن رضيت الأمة عن برامجه من الأحزاب والمرشحين واختارته هو الذي ينبغي بهذا أن تكون له الشرعية، على أساس دستور يحدد مدته، وعدد العهدة التي يمكن أن يجدد اختياره فيها.
وليس في الإسلام ما ينص على منع ذلك، فهو مجال مفتوح للاجتهاد والتأصيل، على أساس المبادئ العامة للأحكام، وكليات التشريع الإسلامي ومقاصده، من الحرية، والاحتكام إلى إرادة الأمة، واختياراتها، ومراعاة الثوابت من المبادئ كالشورى والفصل بين السلطات، وتداول السلطة سلميا وخاصة استقلال القضاء.
ولابد أن تكون اللجنة المشرفة على الانتخابات محايدة، ويكون ممثلون لمختلف الأحزاب والأشخاص المستعملين في مراقبة الانتخابات، والحرص التام على متابعة خطواته ومراحله المختلفة، والاعتماد على الوسائل الحديثة في التسجيل والإحصاء والمراقبة ليلا ونهارا.
ويكون أصحاب الحملات الانتخابية على وعي تام ببرامج من يرشحونه، وعلى قدرة إقناعية للجمهور في مخاطبته له، واحترام كل مدير لحملة للمديرين الآخرين نفيا للنزاع الذي يؤدي إلى العنف، أو فساد نظام الانتخاب، والإخلال به والتزوير فيه.
ونصوص الدساتير اليوم متوفرة لدى مختلف الأمم وهي لا تقصد لذاتها، وإنما هو الحرص على التقيد بها، وعدم العدوان عليها بالتغيير والتبديل، لتكون موافقة لرغبة حاكم أو آخر.
وهكذا فليست العبرة بتدوين الدستور، والقوانين المتفرعة عنه أن تكون مجرد نصوص لا حياة لها في الممارسة، فالقانون وجد لاحترامه، وتنفيذه، وإلا أصبحت الحياة الاجتماعية فوضى، وفقدت الثقة فيه، وفي من يحكم به من القضاة، واستغلال القضاء له أهمية بالغة في هذا المجال حتى تكون العلاقات بين المواطنين تسير في أمن، ولا تتمزق، فحماية القانون هي حماية للمجتمع، لأنه هو الذي يحكم هذه العلاقات ويحافظ على سلامتها، وعلى الأمن وعلى القيم الأخلاقية التي هي سند القانون وعمدته في الحياة الفردية والاجتماعية.
نسأل الله أن يحفظ وطننا من كل مكروه، وأن يوفق من يريد له الخير، والتقدم ويخلص له إلى الدفاع عن الحرية والعدل، وجميع مقومات الأمة.