عادت من جديد موجة العنف المجنون لتغرق مدينة غرداية في أجواء المأساة والرعب والانتقام، وكأن هناك أيادي شيطانية تصر على إحراق هذه المدينة التي شكلت على مدى قرون من الزمن واحة للتعايش السلمي بين المتساكنين من عرب وأمازيغ وإباضيين ومالكيين، ونموذجاً مثمراً لحسن الجوار واحترام الاختلاف المذهبي في إطار الأخوة الإسلامية الجامعة، ومنطقة متميزة في ربوع الوطن الجزائري بنشاطها الاقتصادي والتجاري والسياحي وازدهارها الثقافي والعلمي.
لقد تحدثت تقارير صحفية عن ضبط وثائق تؤكد تورط الأجانب، وكذلك عن إلقاء القبض على شاب جزائري ذي جنسية فرنسية اعترف بتركيبه لصور مزورة عن اعتداء مزعوم لعناصر الشرطة لتأجيج مشاعر الغضب والانتقام وإثارة الفتنة بين سكان المنطقة، وكانت هذه الصور هي المصدر الرئيسي التي تم تداولها في شبكة الأنترنت وحتى في بعض القنوات الفضائية.
وكنا قد أشرنا في مقال سابق إلى الدور الهدام والتحريض الذي ساهمت به بعض مواقع التواصل الاجتماعي في تضخيم الأحداث ونشر التهم ضد رجال الأمن، والدفع نحو المصادمات بين شباب المنطقة الغاضب وبين عناصر رجال الأمن في الأحداث التي هزت ولاية غرداية على مدى ما يقارب 8 أسابيع متواصلة بين شهري ديسمبر 2013 وجانفي2014 والتي خلفت خسائر بشرية ومادية، وفتحت جروحا معنوية يصعب اندمالها.
لقد استغل شياطين الفتنة لجوء السلطات إلى تخفيف الحضور الأمني بالمنطقة بعد مظاهر استعادة الهدوء واستئناف مجريات الحياة الطبيعية بعودة التلاميذ إلى مدارسهم، والتجار إلى فتح محلاتهم، والمواطنين إلى ممارسة أنشطتهم اليومية، لإشعال الأوضاع وترويع السكان وإزهاق الأرواح، حيث تعدت وتيرة التخريب كل الحدود، وتجاوزت حالة التعفين والفلتان حدود الطيش والانحراف إلى درجة العمل الإجرامي وتهديد الاستقرار الاجتماعي، ورغم أن تحرك السلطات المدنية والعسكرية كان سريعا ورفيع المستوى في هذه المرة لتدارك الوضع وتطويق آثار الأزمة على خلاف الأحداث السابقة التي جاء فيها تحرك السلطات بطيئا ومتأخرا، إلا أن الأضرار كانت عالية الكلفة في الأرواح والممتلكات، وكأن شياطين الفتنة كانوا مصممين على الدفع بالأمور في أسرع وقت نحو هاوية الأزمة ونقطة اللارجوع في مسار التوتر المذهبي والطائفي بين شباب المنطقة وساكنها المفجوعين في أهاليهم وأرزاقهم.
غير أن المحزن والمقلق في الأمر أن عقلاء المنطقة –وهم كثر- وأعيانها لم يوفروا الاحتياطات الكافية لدرء الفتنة ومعالجة أسباب الفرقة رغم الحصيلة المؤلمة والدروس المفجعة من الأزمة أو الأزمات والتوترات السابقة القريبة والبعيدة التي أصابت منطقة غرداية، ولم يفلحوا –على ما يبدو- في إطفاء جمر التوترات الطائفية التي يستغلها أعداء الدين والوطن لتهديد سلامة وأمن واستقرار وطن المليون ونصف المليون من الشهداء الأبرار، ولعل كل علماء وعقلاء منطقة غرداية يحفظون أو يقرأون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يشكل السبيل الأسلم لدرء الفتن، إذ يقول: “سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِن الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِن الْمَاشِي،وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِن السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ” .
وإذا كنا نفتخر بانتسابنا إلى الإسلام ونتخذ منه حصنا للوحدة ومنهاجا للسعادة في الدنيا والفوز في الآخرة، ونضعه في رأس المواد الأساسية لدستورنا في الجزائر، فلابد لنا من اتباع تعاليمه والتحلي بفضائله والاحتكام إلى شريعته.
إن من واجب سلطات الدولة حفظ النظام وتوفير الأمن وإقامة العدل وحماية حقوق المواطنين بلا نقصان ولا تمييز، ولكنه من واجب العلماء والمثقفين وجمعيات المجتمع المدني تهدئة الخواطر وتزكية النفوس وتعزيز التماسك الوطني، ومن مسؤولية الدعاة والأئمة الاهتمام بجمع كلمة المسلمين والنهي والتحذير من كل ما يفرق الصفوف ويشجع الانغلاق المذهبي والتعصب الطائفي، ويدفع إلى الشحناء والتباغض والتمزق والتطاحن، والانزلاق في طريق الفتنة الحافل بكل الشرور والآثام والأخطار.
نقل عن الإمام أبي الحسن الأشعري أنه قال عندما حضرته الوفاة: “أشهدوا أنني لا أكفر أحدا من أهل القبلة لمعصيته، لأنني أراهم جميعا يولون وجوههم شطر معبود واحد، والإسلام يشملهم بأجمعهم”.
يقول الشيخ علي يحي معمر وهو من علماء الإباضية: “أنا على يقين في نفسي بأن المذهبية في الأمة الإسلامية لا تتحطم بالقوة ولا تتحطم بالقانون، فإن هذه الوسائل لا تزيدها إلا شدة في التعصب وقوة في رد الفعل، إنما تتحطم المذهبية بالمعرفة والتعارف والاعتراف”.
صحيح وهذا ما يجعل من الملح تعزيز التعارف والاعتراف بين أهل غرداية من إباضيين ومالكيين تأسيس مدارس مشتركة ونوادي رياضية مختلفة وفرق موسيقية وجمعيات كشفية، وكل مؤسسات تعزيز الانتماء المشترك، والتعايش المنسجم، والاعتراف القائم على الأخوة الإسلامية والعزة الوطنية.